الاستهلاك المستدام في البلدان العربية هو موضوع التقرير السنوي للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، الذي يركز على أن الإدارة الرشيدة للموارد تتطلب تعديلاً في أنماط الاستهلاك وليس دائماً زيادة الإنتاج، خصوصاً في مجالات المياه والطاقة والغذاء. وقد تم إطلاق التقرير، وإعلان نتائج استطلاع البيئة العربية الذي أجراه «أفد» في 22 بلداً لمعرفة مدى قبول الرأي العام العربي بتعديل العادات الاستهلاكية، خلال مؤتمر «أفد» السنوي الثامن الذي عقد مؤخراً في بيروت. هنا إضاءة على التدابير التي يمكن أن تنتهجها الحكومات العربية للتحول إلى أنماط مستدامة في الإنتاج والاستهلاك، كما أوردها تقرير «أفد». إذا أرادت البلدان العربية أن تتحول تدريجياً إلى الاستهلاك والإنتاج المستدامين، فعلى كل بلد أن يحدد الإجراءات ذات الأولوية والظروف الممكّنة الضرورية لتسهيل ذلك التحول، على أساس الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الخاصة بالبلد. لكن الإجراءات الحكومية وتدخلات السياسات، رغم أنها ضرورية، لن تكون كافية من دون إشراك مختلف الفاعلين والمعنيين في العالم العربي. وللمجتمع المدني والقطاع الخاص والجمهور دور مهم في إحداث تغيير في أنماط الاستهلاك والإنتاج وصولاً إلى استخدام الموارد الطبيعية الشحيحة بطريقة أكثر كفاءة واستدامة. وعلى الحكومات اعتماد مجموعة من التدابير لتخضير اقتصادها، وفق الظروف المحلية لكل بلد. الحوكمة الرشيدة من الضروري توافر نظام حوكمة قوي يعزز الشفافية والمساءلة ومشاركة المعنيين، من أجل دعم أنماط الاستهلاك والإنتاج الأكثر استدامة والتحول إلى اقتصاد أخضر. ومكافحة الفساد هي أيضاً شرط أساسي لقيام حوكمة قوية وكفوءة. وفضلاً عن تعزيز مقاربة شاملة لصنع السياسة والقرار، يجب أن تضمن الحوكمة الرشيدة توزيعاً منصفاً للمداخيل والثروة وإشراك النساء والشباب. ويجب تزويد المسؤولين وموظفي الخدمة المدنية وصانعي السياسة بالمعلومات وتدريبهم وبناء قدراتهم على تحليل التحديات وتقييم الفرص، وضمان التنسيق بين الهيئات المختلفة لتجنب السياسات المكررة وغير الكفوءة والمتعارضة. ومن الأدوات التي يمكن استخدامها التقييمات البيئية الاستراتيجية، وتقييم الأثر على مستوى المشروع، وتحديد مؤشرات التنمية المستدامة، وتحليل دورة الحياة، والمحاسبة البيئية والاقتصادية المتكاملة، ومراجعة الإنفاق البيئي. صنع السياسة المتكاملة من الضروري دمج الاعتبارات البيئية والاجتماعية مع السياسات الماكرواقتصادية والقطاعية لتحقيق تنمية مستدامة. ويشمل صنع السياسة المتكامل تعميم أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامين وتخضير الاقتصاد. هذا التكامل ضروري لتصميم استراتيجيات حكومية شاملة ولصياغة الخطط والبرامج والمشاريع. ويشمل التكامل تعزيز ممارسات أكثر استدامة في الإنتاج والاستهلاك وكفاءة الموارد، وتخفيف النفايات وصولاً إلى تجنبها، وإدخال التكنولوجيات الابتكارية واستخدامها، وتعزيز تنافسية المنتجات النهائية، وخلق فرص عمل. ويجب إيلاء اعتبار خاص للمجتمعات المحرومة والمهمشة، وأن يرافق إصلاح دعم أسعار المياه والطاقة والغذاء إدخال إجراءات تعويضية مثل خلق فرص عمل وسكن معقول الكلفة ونظم نقل عام، فضلاً عن الخدمات الاجتماعية. إطار العمل التنظيمي توفر القوانين والأنظمة وسيلة قوية وفعالة لدعم وتشجيع الانتقال إلى أنماط استهلاك وإنتاج أكثر استدامة في العالم العربي. فالترخيص للمنتجات التي تزرع بطريقة مستدامة، واعتماد ملصقات التصنيف البيئي وملصقات كفاءة الطاقة، على المعدات الكهربائية والسيارات مثلاً، هي أدوات محتملة يمكن وضعها موضع التنفيذ من خلال الأنظمة. وقد تبنى أكثر من نصف البلدان العربية معايير كفاءة الطاقة بحد أدنى للأجهزة الكهربائية المنزلية. لكن المشكلة تكمن في مراقبة هذه المعايير وفرض استعمالها. وقد تبنت بلدان عربية كثيرة أشكالاً إلزامية أو طوعية من أنظمة كفاءة الطاقة في البناء، ومنها الإمارات وقطر والكويت ولبنان. ويمكن وضع سياسات لتوجيه إنتاج الغذاء نحو منتجات ذات قيمة غذائية أكبر وبأسعار معقولة للمستهلكين مع تخفيض البصمة البيئية للمنتجات الغذائية. الحوافز القائمة على السوق يجب تصميم الحوافز الاقتصادية لدعم آليات التحكم التنظيمية، واختيارها بعناية لكي تؤثر في السلوك باتجاه أنماط إنتاج واستهلاك أكثر استدامة. كما يجب تصميم نظام حوافز لتشجيع مشاركة القطاع الخاص واستثماراته في المشاريع الاجتماعية ومشاريع البنى التحتية. وهناك حاجة لإصلاح مجمل النظام المالي والضريبي لتحقيق هذا الهدف. من الضروري، على سبيل المثال، تحويل النظام الضريبي من فرض ضرائب على الوظائف والمداخيل إلى فرض ضرائب على الممارسات غير المستدامة، وتصميمه بحيث يطبق مبدأ «الملوث يدفع»، ويحاول أن يعكس كامل كلفة الموارد الطبيعية، ويدخل العوامل البيئية والاجتماعية الخارجية في الحسبان. وتشمل الأدوات الاقتصادية الضرائب، ورسوم التلوث، والاعتمادات والحسومات، وهبات الأبحاث والتطوير، وإصلاح دعم الأسعار، والدعم الأخضر. وعلى الحكومات أن تصلح نظام دعم الأسعار لتشجيع التوزيع والاستخدام الكفوءين للموارد. وسوف يخفض هذا الاصلاح الضغط على الموازنات الحكومية، ويساهم في إطلاق الموارد المالية لتوفير الخدمات الاجتماعية الملحّة وتمويل النشاطات والاستثمارات البيئية في الموارد البشرية والأبحاث والتطوير. تنمية الموارد البشرية الاستثمار في تنمية الموارد البشرية عامل رئيسي في إحداث تحول نوعي نحو أنماط استهلاك وإنتاج مستدامة، ودعم الجهود الحكومية لتحقيق تنمية مستدامة. والاستثمار في الرأسمال البشري، من خلال نظام تعليمي محسن يدمج اعتبارات الاستدامة في كل التخصصات، هو شرط أساسي لتوفير الكوادر اللازمة على كل المستويات، أكانت إدارية أو تقنية أو ماهرة، لدعم الانتقال إلى اقتصاد أخضر ومستدام. ومن شأن جمهور واع ومتعلم أن يقطع شوطاً بعيداً في دعم الانتقال إلى اقتصاد أكثر استدامة واخضراراً يستخدم الموارد بطريقة متعقلة وأكثر كفاءة. ومن المهم إعادة توجيه الموارد المالية تدريجاً نحو خطط وبرامج ونشاطات تنموية مستدامة. وتشمل آليات التمويل الابتكارية اعتماد برامج القروض الميسرة والخطط الائتمانية وصناديق التغطية واعتمادات الكربون والتمويل الصغير. ومن المهم أيضاً التشديد على أن تستهدف أدوات التمويل التي تقرها الحكومات الشركات الصغيرة والمتوسطة، لأنها تمثل نسبة كبيرة من الشركات العاملة في العالم العربي. الأبحاث والتطوير التكنولوجيات والممارسات الابتكارية ضرورية لدعم الانتقال إلى اقتصاد مستدام. وقد كانت قدرة العرب على البحث والتطوير منخفضة جداً بسبب عوامل كثيرة، تشمل الافتقار إلى استثمارات في هذا المجال الذي تخصص له البلدان العربية عموماً نسبة صغيرة من ناتجها المحلي الإجمالي. على سبيل المثال، خصصت مصر عام 2011 نحو 0.43 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي للبحث والتطوير، في حين خصصت له كوريا الجنوبية نحو 4.4 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي عام 2014، وخصصت السلطات الإسرائيلية 3.9 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي عام 2012. يجب أن يتغير هذا الوضع إذا كان العالم العربي يريد تحقيق تحول نوعي حقيقي نحو أنماط استهلاك وإنتاج أكثر استدامة. كما يجب بذل الجهود لتشجيع مشاركة القطاع الخاص في البحث والتطوير، ويمكن تحقيق ذلك بتوفير حوافز من خلال تخفيضات وحسومات ضريبية على الاستثمار في هذا المجال. المشتريات العامة الخضراء يمكن أن يكون الإنفاق الحكومي أداة فعالة في تحفيز أنماط الاستهلاك والإنتاج المستدامة في العالم العربي، من خلال توجيهه نحو منتجات وخدمات خضراء. وبصرف النظر عما تمثله المشتريات العامة الخضراء للقطاع العام والقطاع الخاص، فهي سوف تخلق الأسواق للمنتجات الصديقة للبيئة كما تخلق طلباً عليها. وتشمل المنتجات العامة الخضراء المكاتب والمدارس والمستشفيات والأبنية الحكومية الأخرى، ونظم النقل، والبنية التحتية العامة، ومواد البناء، والمعدات واللوازم المكتبية، وسواها. الوعي العام تشكل التوعية ونشر المعلومات أدوات فعالة لدعم الجهود الحكومية في تحديد وتعميم الفوائد الناجمة عن أنماط الاستهلاك المستدام للصحة والبيئة والاقتصاد. وكما أوضح استطلاع المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)، فإن أنماط الاستهلاك غير المستدام تعزى في حالات كثيرة إلى انعدام الوعي حول التداعيات السلبية لأنماط الاستهلاك المفرط والمهدر على الصحة والبيئة واستعمال الموارد. هذه الأدوات يمكن أن تكون في شكل حملات على الإنترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي والإعلانات والمنشورات. كما يمكن أن تكون في شكل مواد تعليمية وتقارير ونشرات إعلانية وكتيبات توزع في المدارس والمرافق التجارية والعامة. * الرئيس السابق لشعبة الاقتصاد والتجارة التابعة لبرنامج الأممالمتحدة للبيئة في جنيف. (تنشر بالاتفاق مع مجلة «البيئة والتنمية»)