يناصر معظم المهتمين الأخذ ب«تقنين» أحكام الشريعة الإسلامية، إذ يؤدي لتجنب صدور أحكام متبانية ومتناقضة في القضايا التعزيرية، ويسهل على القاضي الرجوع لتلك الأحكام الأخرى ورصدها بكل يسر لسرعة الفصل في القضايا، والقضاء على التراكمات فيتم توفير الوقت والجهد، وهو ما تتحقق معه المصلحة والإنجاز السريع للقضايا المنظورة لدى المحاكم، كما أنه يسهم في تقليل الخلاف بين الأحكام، إلى جانب زرع الوعي لدى المتقاضين لمعرفة حقوقهم وواجباتهم، وبما تؤول إليه الأحكام، ما يسهل أحياناً في عملية التقاضي، ويدفع البعض الآخر إلى التراجع عن إشغال المحاكم بقضايا لا تنتهي في الغالب إلى شيء يفيدهم. وتعليقاً على خطوة هيئة كبار العلماء الجديدة، أيّد عدد من المختصين التوجه الذي طالب باكراً بتدوين أحكام الشريعة، على نحو يختصر على القضاة الطريق، ويمهد لإصلاح أوجه قصور عدة، يعانيها القضاء مع تشعبه وكثرة القضايا المنظورة عبر نوافذ التقاضي العامة والإدارية والعمالية. وكانت «الحياة» تفردت الأسبوع الماضي بنبأ إجازة هيئة كبار العلماء التقنين، بعد عقود من النقاش الطويل، إذ كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - أول من أمر بتشكيل لجنة فقهية متخصصة تتولى إصدار مجلة للأحكام الشرعية والتي تعتبر مرجعاً لبعض الأحكام، ثم جاء الملك فيصل - رحمه الله - الذي طلب من كبار العلماء في عهده البحث عن تدوين الراجح من أقوال الفقهاء في المعاملات، إلى أن تحقق ما كان منشوداً أخيراً في الرياض بإقراره بالغالبية قبل نحو شهر. الخبراء في هذا الشأن من القضاة والمحامين، كل له اتجاهه، إلا أنهم يلتقون عند الترحيب بالخطوة، فيشير القاضي السابق إبراهيم بن يوسف الفقيه إلى أن «التقنين أصبح واقعاً شريطة أن يتماشى مع القواعد الشرعية، ووجوده لا يمس الاجتهاد، وذلك أن المستجدات والوقائع والأحداث متتابعة مع تجدد العصر فكل يوم نجد قضايا جديدة نحتاج معها إلى مضاعفة الجهد والبحث، ولعل التقنين للأحكام يساير الوقت الحاضر بمستجداته، ما يجعل من الضرورة إنزال الأحكام على تلك القضايا الجديدة». لكنه نبه إلى «بقاء مسألة الاجتهاد في القضايا التي لم يشملها التقنين، ما يتطلب معه الوضع إيجاد لجان قائمة مستمرة في وزارة العدل وديوان المظالم والمجلس الأعلى للقضاء بالاشتراك مع مراكز البحوث والجامعات المتخصصة في المجال الشرعي والأنظمة، ويمكن أن تتجدد تلك القواعد والأنظمة كلما دعت الحاجة وتعاظم الجرح وصعبت معالجته. كما أن وجود قضاة تنفيذ سيسهم في تطبيق تلك الأحكام ويحد من التباطؤ في تنفيذها ومعالجتها». يعزز قيمة القضاء ويرى المحامي فهد بن إبراهيم السيف أن «التقنين ليس وليد الساعة، فمنذ قيام هذه الدولة وهي ساعية إلى تحقيقه على أرض الواقع، إذ زادت القضايا وتنوعت وعظم الخطب وزاد الناس ومشكلاتهم ودعت الضرورة إلى تقنين الأحكام وإجازتها، وعلماؤنا فيهم الثقة لإدراكهم الأبعاد والنتائج وقرارهم صائب وجاء في وقت نحن أحوج فيه من سابقه، فتدوين الفقه ييسّر على الناس ولا يتضاد مع الاجتهاد، بل يجعل من الاجتهاد باباً في المستجدات. وسيجد القاضي أنه خطوة في تسهيل عمله، فيما سيتركز اجتهاد القاضي أكثر على ملابسات القضية. كما أن التقنين تمكن مراجعة بعض مفرداته إذا ظهرت المصلحة في تعديله، فشريعتنا تراعي مصالح الناس وصالحة للتطبيق في كل زمان ومكان. فاللجان العاملة عليها مواصلة العمل في كل ما من شأنه تطوير الأداء وحسن تطبيقه، ما يتطلب انضمام أعضاء إليها، ذي مستوى رفيع في مجال التخصص الشرعي والقضائي وأصحاب التجارب الخبرات». وأكد السيف أن من أهم إيجابيات التقنين هو القضاء على تفاوت الأحكام في قضايا ووقائع متماثلة، تبعاً لاختلاف اجتهادات القضاة وتعزيرهم لخطورة هذه الوقائع. كما يسهل على الناس معرفة حقوقهم ويمكنهم المطالبة بها، ويحقق مبدأ العدل والمساواة ويرفع من قيمة القضاء وثقة المتقاضين. من جانبه اعتبر الشيخ إبراهيم العجلان، واقع الحياة هو الذي فرض «التقنين»، تيسيراً على القضاة «فزيادة الأعمال الموكلة ونقص القضاة، يحتمان هذه الضرورة التي جعلت هيئة كبار العلماء تجيز التقنين في هذا الوقت المناسب، وعلى رغم مرور هذا الموضوع على العديد من أصحاب القرار إلا أنه اكتمل في وقت نحن بحاجة إليه. فصياغة الأحكام على شكل مواد مبسطة مختصرة يفهمها الناس في تعاملاتهم ويعرفون ما يحكم به القضاة ويعرف القضاة ما يحكمون به، يخدم من يأتي من الخارج ويحمي سمعة بلادنا، فيمكننا القول هذه أحكامنا ليعرف المتقاضون ما لهم وما عليهم من الحقوق والواجبات، وما ذلك إلا لحفظ أحكام الشريعة وتأكيد تطبيقها، لكن تبقى الآلية في التقنين والكيفية التي ستتم بموجبها، وجهاتنا القضائية قادرة على إيجاد ذلك مما يحقق نجاحها، كما أنني أرى أن تترجم تلك المدونات المقننة لتكون عوناً وخدمة لمختلف الجنسيات». وأكد المحامي إبراهيم زمزمي أن المحامي هو الآخر بحاجة إلى التيسير عليه وما التقنين إلا إضافة جديدة في مجال تطوير القضاء، فالسنوات التي مرت من النضال مع التقنين تمخضت عن إجازته من أعلى سلطة شرعية في البلاد. وأضاف: «صحيح سبقنا الكثير في هذا المجال ولكن مع مسايرة الركب تحقق لنا المراد. فالآمال لم تتبخر إذ انتظره المهتمون عقوداً، ويتطلب الأمر الآن إيجاد بنية قوية ومختصين لهم تجاربهم وعلمهم البارز في الجوانب القضائية والأحكام الشرعية، ليكون للتقنين قوته وحضوره وليسهم في الكثير من القضايا ويحدث توازناً بين التفاوت في الأحكام الذي عانينا منه كثيراً». وأوضح المحامي هاني حامد وهبو أن الشريعة الإسلامية حددت عقوبات لجرائم معينة تمس وجود الإنسان وملتصق بمقاصد الإسلام الكبرى بالحفاظ على النفس والعقل والعرض والدين والمال، وهذه الجرائم كالزنا والقذف والسرقة والقتل والحرابة، أما الجرائم الأخرى فقد تركت الشريعة الإسلامية الباب مفتوحاً للاجتهاد في تحديد عقوبات لها وفق ظروفه وحاجاته وسميت بالعقوبات التعزيرية إضافة إلى الكثير من الإثباتات الشرعية الأخرى، ما يتطلب وضع نظام محدد لتلك القضايا مثل التقنيين والتدوين لتبقى علاجاً ودامغاً لتفاوت الأحكام وسهولة الوصول للأحكام، والقضاء على الهدر وإضاعة الوقت. كما رأى أن الإجراء يساعد على إنهاء العديد من القضايا المتراكمة والتي زادت وتنوعت واستجد منها الكثير في هذا العصر الذي جاءت معه جرائم صعب احتواؤها ما يضطر إلى تقنين أحكامه، «وحان الوقت بعد إجازة التقنين لأن نضع الآلية المناسبة ونفعّل هذا الأمر، لأن الهدف من العقاب التهذيب وليس التعذيب، فكان لزاماً تقنين الحكم».