للوهلة الأولى يبدو المشهد عائلياً وبسيطاً، بل تبدو اللوحة وكأنها لوحة «بورتريه» جماعي من النوع الذي ساد الفنون الأوروبية منذ عصر ذروة الرسم الاجتماعي الهولندي، حتى أواخر القرن التاسع عشر. ومع هذا كثيراً ما حيّرت هذه اللوحة المعروفة باسم «الفطور» الباحثين والمهتمين بعمل راسمها إدوار مانيه، بشكل خاص. ففي اللوحة ما يثير التفكير، لا سيما حينما يلاحظ المرء كيف جعل مانيه لكل عنصر في المشهد أهميته الخاصة، ثم كيف وزّع شخصيات اللوحة في شكل تبدو فيه كل شخصية مهتمة بنفسها غير مبالية بالأخرى. واضافة الى هذا، إذا استثنينا الشخصية الرئيسة في اللوحة، أي شخصية الفتى الشاغل مركز الصدارة فيها، كثيراً ما كان ثمة سؤال حول الشخصيتين الأخريين. غير ان ضروب الحيرة والأسئلة هذه كلها، سرعان ما أيقن الباحثون انهم وجدوا حلا لها، أي وجدوا اجابات على أسئلتهم، أولا بفضل موضعة اللوحة في اطارها التاريخي بالنسبة الى عمل مانيه ككل، ثم أخيراً بفضل دراسة اللوحة عبر «أشعة إكس»، ما كشف عن بعض الغوامض. وهذا الكشف يبدو بالنسبة الى الاختصاصيين والباحثين شديد الأهمية حتى وإن كان من المنطقي انه غير قادر على اثارة اهتمام المتفرج العادي الذي اعتاد أن يشاهد هذه اللوحة ويعجب بها، معتبراً إياها واحدة من أجمل لوحات مانيه، بل أكثرها حميمية في الوقت نفسه. ونبدأ هنا من هذا العنصر الحميم الأخير. إذ صحيح ان اللوحات العديدة التي رسمها ادوار مانيه في تلك المرحلة من حياته (ستينات القرن التاسع عشر)، كان يغلب عليها جميعها الطابع الحميم، وأحياناً في تعارض ما مع نزعة التيار الانطباعي الذي كان مانيه، واحداً من مؤسسيه والمدافعين عنه، غير ان ما من لوحة أخرى له بدت على حميمية هذه اللوحة، خاصة اذا عرفنا ان «ليون كويلا لينهوف»، الفتى الذي يشغل مركز اللوحة، اعتبر لاحقاً ابنا غير شرعي لمانيه، هو الذي سيظهر في لوحة اخرى لمانيه ولكن ليس على مثل هذا الوضوح (نشاهده مثلا في لوحة «الشرفة» التي رسمها مانيه في العام التالي 1869، جاعلا الفتى في خلفيتها المظلمة بالكاد تمكن أحداً مشاهدته، فيما تشغل الرسامة بيرت موريزو صديقة مانيه مركز الثقل فيها). واذا كان الباحثون قد اعتقدوا طويلا ان السيدة الظاهرة في خلفية «الفطور» هي السيدة مانيه، فإنهم جميعاً عادوا وأكدوا انها الخادمة فقط، أما السيدة مانيه فإن مكانها كان وسيبقى في لوحات أخرى. وأما الرجل الجالس الى يسار اللوحة يحتسي قدحه بشكل هادئ ومتأمل في الوقت نفسه، فإنه - بحسب تأكيد الدارسين - كان أول الأمر الرسام مونيه، زميل مانيه وصديقه، ولكن اذ لم يعد في وسع مونيه الاستمرار حتى ينجز مانيه لوحته، حل مكانه زميل دراسة سابق للرسام هو أوغوست روسلان. إذا، بعد هذا التحديد، الذي يبدو نهائياً للشخصيات، ظل على الدارسين أن يحددوا المكان، إذ إن بعض المتشددين منهم لم يقتنعوا بأن «ميزانسين» اللوحة يمكن أن يكون ذا علاقة بغرفة عادية، خصوصاً أن توزع الاكسسوارات في المكان يثير بدوره الدهشة والسؤال. وهنا كان تدخل «أشعة إكس»، إذ على ضوء اخضاع اللوحة اليها تبين ان المشهد كان مختلفاً أول الأمر الى حد ما... إذ بدلا من الجدار الأصم الرمادي الذي يشكل خلفية اللوحة، كان ثمة في الأصل الذي عاد مانيه وطمسه، شباك ذو اضلاع حديد من النوع الذي جرت العادة على أن يكون للمحترفات الفنية، ما يعني في بساطة، ان اللوحة - قبل أن تصبح ذات شكل يوحي بإلفة منزلية - كانت تصور مشهداً معداً سلفاً (في «ميزانسين» مدروس) على شكل لوحة محترف. ومن المؤكد ان هذا الاكتشاف يبدو قادراً هنا على تفسير كل شيء، بما في ذلك «العلاقة المفقودة» بين الشخصيات الثلاث، ثم - وهذا لا يقل أهمية عن ذاك - علاقة اللوحة بالفن الهولندي، وهي علاقة تفسرها الاكسسوارات نفسها. إذ انها في توزعها، تبدو كل مجموعة منها مرتبطة مباشرة - وفقط - بالشخصية المناسبة لها: الآنية ذات الألوان الفاتحة ونباتاتها، تبدو على علاقة مباشرة بالخادمة، مثلما حال الآنية التي تحملها والفوطة البيضاء. الطعام على المائدة ذات الشرشف الأبيض يبدو على علاقة مباشرة بالرجل الجالس. أما الأسلحة والخوذة على الكرسي يمين الصورة، حتى وإن كانت بعيدة بعض الشيء من الفتى، فإنها تبدو هنا موضوعة كعلامة معينة ( اقتراب تجنيده مثلا؟!). كل هذا يشكل، إذا، جوهر هذه اللوحة، وربما وحدتها الخفية أيضاً، انطلاقاً من فكرة تقول طالما ان اللوحة هي، في الأصل، لوحة محترف - وربما ثلاث لوحات محترف جمعها الرسام معاً في «ميزانسين» واحد -، فإن هذا يعطي لكل عنصر من عناصر اللوحة دلالة رمزية أو ايحائية ما، ناهيك أن القط الأسود في اللوحة والذي يبدو عليه انه منهمك بتنظيف نفسه، يبدو هنا معادلا للون الأسود في سترة الفتى، ويذكّر مباشرة بالكلب الذي سنراه في لوحة «الشرفة» للفنان نفسه. كما ان عناصر «الطبيعة الميتة» (كما تتجلى من خلال ما هو موجود فوق المائدة، تبدو مستقاة من «واقعية» شاردان (1699 - 1779) المطورة في الرسم الفرنسي الواقعي، لأجواء الرسم الهولندي التي أشرنا اليها، والتي يضعنا السلاح والخوذة في قلب اهتماماتها الرمزية. في هذه اللوحة التي تتوسط مسار مانيه الزمني والفني في آن معاً، نلاحظ كيف ان الفنان يطيل أمد توجهه الذي كان لا يزال مسيطراً على عوالمه اللونية منذ اقامته لفترة في اسبانيا ورسمه الكثير من المشاهد الاسبانية - حيث ثمة سيطرة لا تفوت الناظر، للون الأسود، وللألوان الرمادية والبيضاء الشاحبة. وكذلك نلاحظ سيطرة لفكرة المثلث (الذي يتشكل في «الشرفة» من رؤوس شخصياتها الرئيسة الثلاث، فيما يتشكل هنا من الثلاثي البصري الذي يشكله الفتى والخادمة والخوذة على الكرسي، ناهيك بمثلث اللمعية الأبيض الذي يتشكل من آنية الزهور في الخلف ومقبض السيف في أسفل يمين اللوحة، وياقة قميص الفتى... والواضح ان هذه العناصر التشكيلية جميعاً، تضعنا بقوة في قلب عالم إدوار مانيه، الذي كان ينحو على الدوام الى الخروج عن قواعد الانطباعية وقوانينها، عبر اعطاء المجال لاعتبارات أخرى، مستقاة كما أشرنا من «الملوّنة» الاسبانية، وواقعية شاردان، ورمزية الرسم الهولندي. وكل هذا، بالتأكيد، يضفي على هذا المشهد، الذي يبدو اليفاً وعائلياً أول الأمر، سحره وغرابته. وبعد هذا كله قد يكون من المفيد هنا أن ننقل عن دارسي فن مانيه تأكيدهم أن في هذه اللوحة في شكل خاص، ما يشي حقاً بتأثر مانيه المبكر بفن التصوير الفوتوغرافي، وهو تأثر لا شك ان في امكاننا ان نلاحظه في العديد من لوحات اخرى له، تنتمي الى تلك المرحلة نفسها، حيث كان فن الفوتوغرافيا لا يزال في بداياته... وحينما رسم ادوار مانيه (1832 - 1883) لوحة «الفطور» كان في السادسة والثلاثين من عمره، وكان سبق له أن حقق شهرة ومكانة كبيرتين كواحد من أبرز مؤسسي الفن الانطباعي في فرنسا، ولكن أيضاً - خارج ذلك الاطار - كواحد من الفنانين المتفردين الذين يعرفون كيف يجمعون في بوتقة واحدة، العديد من المؤثرات الآتية من مدارس وبلدان متعددة، ما جعل كثراً يعتبرونه واحداً من «أول الفنانين الأوروبيين». [email protected]