أنهى رئيس جمهورية لبنان ميشال سليمان أمس، زيارته الرسمية لبريطانيا، مختتماً بذلك اجتماعاته المكثفة مع أكبر عدد من المسؤولين في أقل فترة من الوقت. ومع أن الزيارة جاءت تلبية لدعوة رئيس الوزراء غوردن براون حملها الى بيروت وزير الخارجية ديفيد ميليباند، إلا أن الملكة اليزابيث الثانية استجابت لطلب السفيرة انعام عسيران، واستقبلت الرئيس وزوجته وفاء في القصر. واعتبرت هذه الخطوة الاستثنائية خروجاً على التقاليد لأن ضيوف الحكومة عادة لا يشملهم بروتوكول الملكة. وفسّر الديبلوماسيون هذه البادرة بأنها تعكس رغبة بريطانيا في مدّ جسور العلاقات مع لبنان، خصوصاً أن العماد سليمان هو أول رئيس جمهورية لبناني يزور بريطانيا بدعوة رسمية (ما عدا الزيارة السريعة واليتيمة التي طلبها الرئيس السابق أمين الجميل بهدف شرح وجهة نظره في الحرب اللبنانية). ويستدل من الدعوة التي أقامها نجل الملكة الأمير اندرو، ظهر الخميس الماضي على شرف الرئيس والوفد المرافق له، أن المملكة المتحدة راغبة في إلغاء الحظر الذي ضربته الولاياتالمتحدة حول لبنان منذ تفجير مقر المارينز في بيروت. وبما أن الأمير اندرو هو الممثل الخاص لشؤون التجارة الدولية والاستثمار، فإن تكريمه للرئيس ولمجموعة من رجال الأعمال اللبنانيين، هو بمثابة خطوة ايجابية نحو تخفيف الحظر الأوروبي - الأميركي. وفي هذا السياق، شددت سفيرة بريطانيا في بيروت فرانسيس غاي، على أهمية الانتخابات المقبلة، وعلى ضرورة دعم الرئيس سليمان من قبل الأسرة الدولية، باعتباره الرمز الذي يمثل سيادة لبنان واستقلاله. أثناء الاجتماع بالرئيس سليمان، اعتذر غوردن براون عن عدم اقامة مأدبة غداء على شرفه - كما تقضي الأصول المتبعة - بسبب زيارته الخاطفة لأفغانستان. وقد أكدت هذه الزيارة خطورة الوضع على الحدود الافغانية - الباكستانية، واستنجاد الرئيس حميد كارزاي بلندن لعلها تساعده على ترميم الثقة المفقودة بينه وبين نده الباكستاني الرئيس آصف علي زرداري. لهذا اضطر براون الى التوجه الى اسلام آباد للاعراب عن مخاوفه من انهيار الدولتين أمام هجمات «طالبان». في لقائه مع المسؤولين البريطانيين الثلاثة: غوردن براون وديفيد ميليباند ووزير الدفاع جون هاتون، شدد الرئيس سليمان على ضرورة ممارسة ضغوط سياسية تفرض على اسرائيل تنفيذ القرار 1701، وقال إن اختراقاتها واعتداءاتها وتهديداتها المتواصلة وعدم انسحابها من تلال كفرشوبا ومزارع شبعا والقسم الشمالي من قرية الغجر، هذه كلها مؤشرات سلبية تنبئ بنياتها العدوانية. وقدم الرئيس أدلة قاطعة على استهداف الاستقرار اللبناني عن طريق زرع العملاء واغرائهم بالمال في سبيل زعزعة الوحدة الوطنية. ووصف تلك الخروقات - إن كانت في الجنوب أم في مناطق أخرى - انها بمثابة حرب اقتصادية معلنة ضد الهدوء والسلام الداخلي. الوزير ميليباند ذكّر الرئيس سليمان بالجولة السابقة التي قام بها للمنطقة، حيث زار سورية ولبنان والإمارات العربية المتحدة وإسرائيل والضفة الغربية، وقال إن بلاده تعمل مع حلفائها الأوروبيين، للدفع باتجاه التوصل إلى حل شامل. «وحتى الآن لا نجد أفضل من مبادرة السلام العربية التي اُطلقت في بيروت سنة 2002». أي المبادرة التي تعد إسرائيل بتطبيع كامل للعلاقات مع جيرانها من الدول العربية مقابل الانسحاب من الأراضي المحتلة. وهي تمنح السلطة الفلسطينية الدعم الاقليمي القوي الذي تحتاجه للتوصل إلى اتفاق، كما تعرض على إسرائيل الاستقرار والأمن. وأعرب الجانب البريطاني عن أسفه لتوقف المفاوضات بسبب نتائج الانتخابات الإسرائيلية التي أتت بزعماء يرفضون المبادرة العربية ويطالبون بأن تستبدل بمبادرة لا تهدد انتشار المستوطنات. وقال المسؤولون الثلاثة: نحن ننتظر زيارة نتانياهو لواشنطن، لعل الرئيس أوباما يستطيع اقناعه بتعديل موقفه. أما من جهتنا فقد أبلغنا اسرائيل بضرورة احترام التزاماتها نحو خريطة الطريق وكل ما تنص عليه بشأن المستوطنات غير الشرعية. وهذا يستدعي بالضرورة وقف الهجمات ضد إسرائيل. ومعنى هذا أن الحل المنطقي العادل يبقى في حدود إقامة دولتين فلسطينية وإسرائيلية. وأثنى الوزير ميليباند على الموقف المتوازن الذي يقفه الرئيس وسط الخلافات الداخلية التي يحاول التقليل من أضرارها بواسطة الحوار المتواصل. وقال إن انتقاء بيروت من قبل اليونسكو، العاصمة الثقافية التاسعة للكتاب، هو أفضل مؤشر إلى الطاقة الفكرية المختزنة في هذا البلد الحي. ولما تحدث ميليباند عن مساهمة بلاده في إعادة تعمير مخيم نهر البارد، لم ينس أن يقول إن السياسة الاقتصادية والعمرانية لا تنفصل عن السياسة السياسية. وكان بهذا الايضاح يشير إلى تقوية المؤسسات التي تشكل حجر الأساس لدولة فلسطينية مستقلة. ذلك أن بريطانيا تعهدت خلال سنة 2007 بتقديم حوالي نصف بليون دولار من المساعدات على مدى ثلاث سنوات. كل ذلك من أجل مساعدة السلطة الفلسطينية على دفع تكاليف الخدمات، وتأمين العتاد للشرطة المدنية، وخلق فرص العمل. ومع أن الاندفاع باتجاه السلام قد تجمد حالياً، إلا أن الموقف البريطاني لم يشذ عن الموقف الأميركي الذي حمله الى الرئيس سليمان منذ مدة، رئيس لجنة الخارجية في مجلس الشيوخ السيناتور جون كيري. اي الموقف الضامن لسيادة لبنان واستقراره، والذي يتحاشى عقد عملية سلام على حساب العلاقة مع لبنان. وعندما سئل الرئيس سليمان عن تأثير قرار اطلاق سراح الضباط الأربعة، وما إذا كانت نتائج هذا القرار ستربك سير الانتخابات، قال إنه يستبعد حدوث هذا الأمر لأن المحكمة أعطت الدليل على عدم تسييس مسألة الاغتيال. وطمأن المسؤولين البريطانيين الى سلامة العملية الانتخابية التي توقع أن تتم بطريقة ديموقراطية بعيداً عن الضغوط وإثارة المخاوف. وقال إنه ينتظر نتائج انتخابات 7 حزيران (يونيو) ليبدأ مسيرة الاصلاحات التي وعد اللبنانيين بها. وعندما عاد الرئيس سليمان الى بيروت ليلة الخميس الماضي، اكتشف ان قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، قد أحدث انقلاباً في المواقع وان المعارضة استقوت به لتشن حملة شعواء على جماعة 14 آذار. ومع ان اياً من الضباط الأربعة لا ينتمي الى «حزب الله»، إلا ان نواب الحزب أحاطوا بهم ووفروا لهم الوسائل الاعلامية المطلوبة للطعن في صدقية المحاكم اللبنانية والتشكيك في نزاهتها. ويرى المراقبون ان هذا الاحتضان السياسي قد أقلق الناخب السني الذي تذكر ان «حزب الله» كان دائماً ضد المحكمة الدولية، وضد فكرة تجيير العدالة الى هيئة خارجية تتولى البحث عن «الحقيقة» في عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، من هنا القول ان الخطأ الذي ارتكبه قاض لبناني يجب ان يعالج ضمن الجسم القضائي، لا ضمن المناخ السياسي كأن الرأي العام هو صنيعة 14 آذار فقط، أو كأن العدالة في لبنان كانت مرتهنة للتحقيق في موضوع اغتيال الحريري. ويقال في تفسير هذه الحملة التي رافقت اطلاق سراح الضباط الأربعة، ان الهدف المباشر من تأجيجها هو كسب الانتخابات بأكبر نسبة ممكنة لصالح «حزب الله» وحلفائه. أما الهدف البعيد فهو إلغاء مرحلة رفيق الحريري ونقل ضريحه من وسط بيروت الى مكان آخر. وربما يكون هذا التفسير من باب المبالغات التي تستخدمها جماعة 14 آذار أملاً في استنفار المشاعر المذهبية والتحريض على مقاومة الهجوم الاعلامي بهجوم اعلامي مضاد ومن المؤكد ان توظيف السلاح المذهبي في معركة سياسية قد ينتهي بالمستغلين الى نزاع مذهبي كالذي يجري في العراق حالياً. خصوصاً ان الفتنة كادت تقضي منذ سنتين على كل الإنجزات لولا مؤتمر الدوحة الذي أوقف الانحدار نحو الهاوية وأتى بالعماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. وفي خطاب القسم شدد الرئيس الجديد على استقلال السلطة القضائية، داعياً الى تداول السلطة عبر انتخابات حرة ونزيهة وشفافة. وقال في مجلس النواب ان تحسين شؤون الوطن لا يتم إلا عبر التلاقي ضمن ثقافة الحوار كي لا يتحول لبنان الى ساحة للصراعات. وهذا ما أكده في لندن، مشدداً على ضرورة مواصلة الحوار الوطني. منذ انتخابه رئيساً للجمهورية لم يتوقف العماد ميشال سليمان شهراً واحداً عن السفر الى خارج لبنان. وفسر أصدقاء القصر هذا الحراك المتواصل بأنه جهد خارجي يصب في مصلحة الدولة ومؤسساتها المتعثرة. وبفضل هذا الحراك الذي غطى الدول العربية وعدداً كبيراً من الدول الاجنبية، نجح الرئيس في إبعاد لبنان عن المحاور الاقليمية وتقريب الجاليات اللبنانية من الارتباط بوطنها، وهذا ما يفسر الهجمة السياحية الأخيرة من دنيا الاغتراب، كأن المهاجرين قد اكتشفوا وطنهم من جديد، أو كأن الشراكة التي وقعها العماد سليمان مع الرئيس بشار الأسد قد أحيت التطلعات المتفائلة بمشروع الحكم وقيام الدولة الواعدة. ويتوقع المتشائمون ان تؤثر الخلافات المحلية قبل الانتخابات وبعدها، على الاصلاحات التي وعد بها الرئيس... وعلى زياراته الخارجية بحيث يكتفي بالقليل منها بسبب انشغاله في ترميم الوضع الداخلي. ويخشى وزير الداخلية زياد بارود ان تستغل اسرائيل مرحلة الفوضى المتوقعة، كي تنشر عملاءها من جديد، وتستخدمهم مثلما استخدمت العميد المتقاعد أديب العلم وأفراد عائلته. وتشير المعلومات المستقاة من مصادر «الموساد» ان زرع العملاء في لبنان بدأ سنة 1956، وان اكتشاف أول خلية تم في عهد الرئيس كميل شمعون بواسطة مدير الشرطة في حينه صلاح لبابيدي. وكانت مهمة تلك الخلية - حسبما جاء في مذكرات لبابيدي - زرع القنابل بالتناوب في الكنائس والجوامع، ولولا اكتشاف تلك الخلية بالصدفة، لكانت ثورة 1958 انطلقت سنة 1956. * كاتب وصحافي لبناني