صدرت حديثاً عن دار الجمل الترجمة العربية لرواية الكاتب السوري الأصل الألماني اللغة رفيق شامي، «الجانب المظلم من الحب»، وقد أنجزها المترجم السوري خالد الجبيلي الذي أثرى المكتبة العربية بترجمات عدة تتسم بالجودة والسلاسة. غير أن هذه الترجمة تثير مشكلة قديمة جداً في العالم العربي، إذ إن الجبيلي لم يترجم رواية شامي عن لغتها الأصلية (الألمانية)، بل عبر ما يُسمى اللغة الوسيطة، وهي هنا اللغة الإنكليزية. في حالتنا هذه قام رفيق شامي بمراجعة الترجمة قبل النشر، وقرأها –حسبما صرّح- «قراءة دقيقة» وقام بتنقيح «ما أخطأ الهدف». لذلك ليس لنا مآخذ على هذه الترجمة التي تمثل استثناء. ولكن لنا مآخذ عديدة على هذه الظاهرة المنتشرة: الترجمة عبر لغة وسيطة. هذه الظاهرة اختفت تماماً في أوروبا، ولا يمكن أن يخطر على بال دار نشر ألمانية مثلاً، أن تكلّف مترجماً متخصصاً في اللغة الإنجليزية بترجمة عمل من الإسبانية أو الروسية أو حتى العربية التي ما زالت تعتبر لغة غير شائعة إلى حد ما. هذا أمر عفّى عليه الزمن، ولم يعد يقوم به أحد إلا في حالات اللغات النادرة فعلاً. في كتابه القيّم «أن نقول الشيء نفسه تقريباً» يتأمل أمبرتو إيكو في ماهية الترجمة وجوهرها، معتبراً أنها أولاً وأخيراً، تأويلاً للنص. الترجمة عبر لغة وسيطة تعني إذن تأويل نص مؤول. السؤال المطروح في الترجمة عبر لغة وسيطة، هو: هل استطاع المترجم أن ينقل النص بظلاله وإيحاءاته وإحالاته كافة؟ هذا شيء لا يمكن الحكم عليه عبر قراءة الترجمة وحدها التي قد تكون سلسة وجيدة. لا بد هنا من الرجوع للأصل. هل يستطيع مترجم واحد نقل أعمال من الأدب التركي والصيني والألماني عن اللغة الانجليزية أو الفرنسية محافظاً على كل سمات الأصل؟ بيقين كبير يمكن القول إن الترجمة عبر لغة وسيطة ترجمة تقريبية، لأنها -بتعبير إيكو– «نتيجة تفاوض» مع متفاوض، لهذا يكاد يجمع معظم الباحثين في علم الترجمة على رفض الترجمة عن لغة وسيطة، واعتبارها –أحياناً- تشويهاً مزدوجاً للأصل. وتتفاقم إشكاليات الترجمة عبر لغة وسيطة في الأعمال التي تقوم أساساً على اللغة، لا على «الحدوتة» والحدث. ولعل المثال الأبرز في ذلك هي ترجمة الأستاذ الجبيلي لرواية الكاتبة النمسوية إلفريده يلينك التي صدرت في عام 2013 عن دار «طوى» تحت عنوان «معلمة البيانو». تبدأ إشكاليات هذه الترجمة بالعنوان. يلينك اختارت «عازفة البيانو» عنواناً، وهو اختيار لم يأت اعتباطاً. مَن قرأ الرواية يعرف أن موضوعها يدور حول امرأة تعلمت عزف البيانو منذ طفولتها، وكان حلمها وحلم أمها هو أن تصبح عازفة بيانو شهيرة ونجماً من نجوم الموسيقى في فيينا. فإذا قام المترجم الإنجليزي بتأويل العنوان –وأنا أعتقد أن التأويل خاطئ-، فإن المترجم العربي يعيد التأويل نفسه، أي يكرر الخطأ ذاته. نصادف في ترجمة الجبيلي عن الإنجليزية أخطاء كثيرة، ولا نعلم هل هي ناتجة عن «تفاوض» المترجم الإنجليزي مع الأصل الألماني، أم نتيجة «التفاوض الثاني» الذي قام به الجبيلي. في صفحة 16 من ترجمة الأستاذ الجبيلي نقرأ أن إريكا «معرضة دائماً لخطر السقوط، الوقوع في الحب». الجملة بهذا الشكل تهمل الصورة البلاغية التي استخدمتها يلينك، ألا وهي أن الحب رباط يلتف حول عنقها (كالمشنقة). والترجمة الصحيحة هي: «كما أن إريكا معرضة دائماً لخطر التفاف رباط الحب حول عنقها». نقرأ في الترجمة عن الإنجليزية: «الأم تقول إن إريكا ليست مجرد وجه من الوجوه في وسط جمهرة من الناس: إنها واحدة من مليون» (الجبيلي، ص 18). بالرجوع إلى الأصل نفهم أن الجملة الثانية تناقض الأولى تماماً، أي أن الترجمة العربية عكست المعنى. والترجمة الصحيحة هي: «تشرح الأم لإريكا أنها ليست واحدة ضمن كثيرات، بل هي نسيج وحدها». أمثلة أخرى: - «ينفتح أمامها عالم، عالم لا يشك أحد آخر في وجوده» (الجبيلي، ص 73). المعنى المقصود هنا هو العكس تماماً: «العالم الذي ينفتح أمام عينيها يجهله الآخرون كل الجهل». - «لكن لا يجرؤ أكثر المروضين شجاعة على أن يحلموا ويخرِجوا فهداً أو لبؤة من صندوق آلة الكمان» (الجبيلي، ص 131). والصحيح: «ولكن أمهر المروضين وأحذقهم لم يفكر يوماً في أن يكلف نمراً أو لبؤة بحمل آلة كمان» (بمعنى تعلم العزف، فالكاتبة تسخر هنا من «ترويض» الأطفال لكي يتعلموا عزف آلة موسيقية في سن صغيرة وكأنهم حيوانات في السيرك). - وأخيرا هذا المثال الذي يوضح إشكاليات عديدة من إشكاليات الترجمة عبر لغة وسيطة: «يهبط في مصعد إلى شارع ضيق يكاد يكون فارغاً. يشتري قطعة من الثلج تكاد تكون سائلة من عربة صغيرة. يقدم له البائع المتنكر بقبعة قطعة الثلج بطريقة تخلو من الحب وبإهمال واضح» (الجبيلي، ص 293). يستغرب القارئ لماذا يشتري شخص قطعة من الثلج تكاد تكون سائلة، ولماذا يتنكر البائع؟ عند الرجوع إلى الأصل يزول الاستغراب: «يسير على السلم الكهربائي هابطاً إلى ممر يكاد يكون خالياً. يشتري من عربة صغيرة آيس كريم شبه سائل. يحصل على الآيس كريم دون اهتمام أو لطف من رجل يعتمر قبعة». وهناك مشكلة كبيرة في ترجمة دار طوى، ولا أعلم هل هي نابعة من خطأ في صف النص العربي، أم في الترجمة الإنجليزية؛ ففي أحد المشاهد التي تجمع بين إريكا وفالتر (وليس والتر كما جاء في ترجمة الجبيلي، وهذه إشكالية أخرى، منح أسماء الأشخاص والمدن نكهة إنجليزية أو فرنسية، حسب اللغة الوسيطة)، نجد أن المشهد ينتهي فجأة، ثم نطالع بقية المشهد «ملصوقاً» بعدها بثلاثين صفحة، في مكان آخر تماماً. والنتيجة أن القارئ لن يفهم المشهد الأول ولا المشهد الثاني. الترجمة هنا هي بالفعل تشويه مزدوج. وختاماً: إذا ظللنا نعتمد على الترجمة عبر الفرنسية والإنجليزية، فإننا نمنع نشوء أجيال جديدة من المترجمين عن اللغات التي نعتبرها نادرة الآن، كالتركية أو الفارسية أو اليابانية، فالترجمة كأي علم، تتطور بالتراكم وب «التفاوض» المباشر مع اللغة الأصلية.