من الأفكار التي دخلت حيز المسلمات التي لا يكاد يطالها الشك لدى الكثيرين القولُ بإن الترجمة عن لغة وسيطة هي بالضرورة أقل شأناً من الترجمة المباشرة من اللغة المصدر التي كتب بها النص إلى اللغة الأم، فهي لا ترقى إليها ولا تبلغ مبلغها؛ واحتمالات الوقوع في الخطأ في التأويل ونقل الأفكار والتعابير المجازية، بل وحتى بعض الألفاظ والأسماء تكون أكبر حين تقف اللغة الوسيطة حائلا وحاجزاً بين نص كتب بلغة أولى ونص آخر صيغ بلغة أخرى تتأخر في الترتيب لتصبح ثالثة على غير ما جرت العادة به في الترجمة. هذا الكتاب القصير والمهم يذهب كاصد (وهو محق في ذلك كما أرى) إلى تفضيل ترجمة الشاعر الكبير خليل مطران لمسرحية شكسبير (مكبث) على ترجمة كل من جبرا إبراهيم جبرا وصلاح نيازي وهما من هما في عالم الترجمة؟! من حيث المبدأ، لا اعتراض على هذه الفكرة ولا مجال للجدل حول صحتها، غير أن الشك لطالما خامرني في إمكانية تعميم هذه الفكرة بشكل مطلق، لأنه هنالك من الأمثلة التي اتيح لي الفرصة أن أطلع عليها شخصياً ما يفند هذه الفكرة أو يضعف الإيمان أن اعتبرها حكماً مطلقاً ومبرماً لا مراء فيه. هنالك على سبيل المثال إجماع على أن ترجمات سامي الدروبي لروايات دستويفسكي هي الأبرز والأجمل رغم أنه لم يترجمها عن اللغة الروسية مباشرة بل عبر لغة وسيطة هي الفرنسية. على الطرف النقيض من هذا المثال سبق لي قبل سنوات الاطلاع على ترجمة لإحدى روايات كافكا عن اللغة الألمانية، وكانت الترجمة في غاية السوء. وبطبيعة الحال ينبغي علينا ألا نغفل ضرورة تمكن المترجم من اللغتين والثقافتين المترجم منها وإليها، وهو الأمر الذي ربما لم يكن متحققاً في هذا المثال. مؤخراً سعدت كثيراً بقراءة كتاب للشاعر والمترجم العراقي عبدالكريم كاصد حمل عنواناً معبراً هو (غبار الترجمة). وفي هذا الكتاب القصير والمهم يذهب كاصد (وهو محق في ذلك كما أرى) إلى تفضيل ترجمة الشاعر الكبير خليل مطران لمسرحية شكسبير (مكبث) على ترجمة كل من جبرا إبراهيم جبرا وصلاح نيازي وهما من هما في عالم الترجمة؟! رغم أن مطران قد أنجز ترجمته عبر لغة وسيطة هي الفرنسية على خلاف جبرا ونيازي اللذين قاما بترجمتها مباشرة من اللغة الإنجليزية. هنا لا بد من الإشارة إلى مدى براعة المترجم وتمكنه وتشربه لروح النص المترجَم، بالإضافة إلى كون النص الوسيط في هذه الحالة مترجم بصورة بالغة الاحترافية والمهارة والدقة. العبرة إذن ليست في الترجمة من لغة أولى أو ثانية بل في المنتج النهائي الذي ينجح في الوصول إلى القارئ وقد نفض عنه أكبر قدر من غبار الترجمة.