تشهد باريس عروض المسرحية الشهيرة التي ألفها الراحل آرثر ميللر في نهاية فترة خمسينات القرن العشرين «منظر من الجسر»، والتي أدى بطولتها مرات ومرات فوق الخشبة النجم الراحل راف فاللوني، في الولاياتالمتحدةولندن وروما. وساعدت فاللوني إجادته لغات عدة، كما أنه أدى بطولة الفيلم السينمائي المستوحى من المسرحية إياها مطلع الستينات والذي أخرجه الهوليوودي سيدني لوميت. ولم يكتف فاللوني بتمثيل الدور الرئيس في المسرحية بل راح مع مرور الأعوام يخرجها بنفسه وأسلوبه الشخصي وكان آخرها في العام 1980 في باريس. وها هو مسرح «أوديون» الباريسي العريق يقدم نسخة مجددة من العمل، من إخراج الهولندي إيفو فان هوف الذي سبق وعرض «منظر من الجسر» في لندن عام 2014 بنجاح مانحاً دور البطولة إلى الممثل السينمائي المعروف مارك سترونغ. أما في حلتها الباريسية فتسمح المسرحية باكتشاف النجم شارل برلينغ في دور مختلف كلياً عما يعتاد تمثيله أمام الكاميرا أو حتى فوق الخشبة علماً أنه نادر الظهور في المسرح. ويلاحظ المشاهد المخضرم والخبير في شأن هذه المسرحية، التحدي الذي رفعه المخرج فان هوف باختياره فناناً لا يتميز بأي شكل من الأشكال بنفس مواصفات راف فاللوني، فقد كان هذا الأخير خشناً وجافاً في حين يتمتع برلينغ بشيء من الحساسية وبميل إلى التعبير عن المشاعر الدرامية يزيد من إنسانيته حتى في أكثر مواقف المسرحية قسوة. ومع ذلك تجدر الإشارة إلى أن شارل برلينغ يقدم هنا شخصية إيدي كاربون العامل في الميناء والبدائي في تصرفاته، بشكل ربما يأتي بمثابة عنصر يسلط الضوء على أبعاد في هويته ظلت شبه خفية في الماضي بسبب التصاق الممثل المؤدي للدور بمظهر كاربون الخشن الذي يوحي بأنه دوماً على أتم استعداد للهجوم على غيره مثل الحيوان المفترس. ويتساءل المشاهد لدى رؤية شارل برلينغ عما قد يمنع هذا الرجل الجاف في شكله الخارجي والذي تنقصه الثقافة، من أن يملك المشاعر في قرارة نفسه وأن يعجز إلى حد ما عن التعبير عنها أو أن يعبّر عنها في أسلوب خاطئ يزيد من بؤسه ومن سوء فهم محيطه له. وقد نلاحظ في حس برلينغ المرهف نقطة إيجابية تزيد من تعاطف المشاهد مع شخصية إيدي كاربون وتجعل الرجل ضحية تصرفاته بنفس قدر كونه جلاداً يسيء إلى غيره لا سيما أقرب المقربين إليه. تروي المسرحية حكاية إيدي كاربون الإيطالي المهاجر إلى نيويورك والذي عانى حتى يستقر في بلد أجنبي ويؤمن لنفسه وزوجته وابنة أخته الراحلة التي تبناها، حياة كريمة لا ينقصها أي شيء من الأساسيات لا سيما التعليم في ما يخص ابنة أخته. فهو لطالما حلم أن يراها في المستقبل، طبيبة أو محامية أو حتى وزيرة. ولذا يتحول كاربون إلى وحش في اليوم الذي يكتشف فيه أن الصبية كبرت وصارت تعشق شاباً في عمرها يرغب في الزواج منها، وتنقلب محبته الأبوية إلى غيرة عمياء تدفع به إلى تهديد ابنة أخته وحبيبها، ومن ثم إلى التصرف في شكل سيثير البلبلة في العقول ويؤدي بالجميع إلى فقدان الرشد وارتكاب ما لا رجوع فيه إلى الوراء. صوّر المؤلف آرثر ميللر في مسرحيته هذه، شريحة من المجتمع الأميركي وهي المكونة من مهاجرين إيطاليين بسطاء يصعب عليهم تجاهل جذورهم والعادات التي تقود حياتهم أينما تواجدوا. ووضع المخرج إيفو فان هوف ممثليه في إطار ديكور في شكل حلبة تجيد الإيحاء بالقتال المعنوي وثم الجسماني الذي يدور بين الشخصيات المختلفة. وغير شارل برلينغ، تزخر المسرحية بالمواهب، ولعل أبرزها ألان فروماجيه وكارولين بروست وبولين شيفيييه.