أخيراً حملت بعد انتظار دام أكثر من خمس سنوات، وشكل هذا الحدث وقعاً خاصاً على حياتها العائلية. فحصها الطبيب ملياً، وبعد ان تأكد من أن الحمل يسير على ما يرام، طرح عليها السؤال الآتي: هل ترغبين في ان تكون الولادة طبيعية أم قيصرية؟ فأجابت على الفور: أريد ان أضع طفلي بالطريق الطبيعية. وبدأت الأم بوضع الخطط لاستقبال الوافد الجديد بعد بضعة أشهر، ولكن الذي حصل لم يكن في الحسبان، اذ اضطرت بعد مرور ثمانية أشهر ونيف من رحلة الحمل للدخول الى المستشفى على عجل على أمل أن تضع وليدها كما كانت تتمنى، ولكن الرياح لم تسر كما تشتهي السفن، إذ تبين للطبيب ان الولادة غير ممكنة طبيعياً وأن لا مناص من الولادة بجراحة قيصرية فرضت نفسها كأمر واقع. والقيصرية جراحة يتم فيها شق جدار البطن والجزء السفلي من الرحم واستقبال المولود الجديد من خلاله. وكثيرون إن لم نقل الجميع يعتقدون بأن اسم العملية القيصرية انما أتى من ولادة الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر الذي كان أول من ولد بها، ولكن الوقائع التاريخية تفيد بأن قيصر روما ولد بالطريقة الطبيعية، وأن لا علاقة للاسم بالحدث لا من قريب ولا من بعيد، وكل المسألة أن الاسم ارتبط بترجمة العمل الجراحي وكيفية وضعه موضع التنفيذ من اللغة اليونانية، فالقيصرية تعني الشق أو القطع الذي يلجأ اليه الطبيب من أجل انقاذ حياة الأم أو الطفل. وسواء كان القيصر هو سبب التسمية أم لا، فالمهم في الموضوع هو العملية القيصرية بحد ذاتها، فهذه ليست حديثة العهد بل عرفت منذ القدم، وتشير التحريات الى أنها كانت منتشرة في العصر الروماني، اذ كانت تطبق على المرأة المتوفية في الأسابيع الأخيرة من الحمل بهدف انقاذ الجنين. وظلت القيصرية من العمليات الخطرة البالغة التعقيد حتى مطلع القرن العشرين، اذ كانت تنتهي غالباً بكارثة قلما ينجو منها الجنين أو الأم. ولكن في عصرنا هذا باتت من العمليات السهلة بفضل تقدم التقنيات الجراحية وعمليات نقل الدم واستعمال المضادات الحيوية وتطور وسائل التخدير، وغدا احتمال وقوع الخطر جراء تنفيذها لا يتعدى الواحد في الألف. لكن لماذا يتم اللجوء الى الجراحة القيصرية؟ هناك جملة من الأسباب التي تدفع الى إجراء الجراحة القيصرية، ففي بعض الحالات يتوصل الطبيب الى قناعة فورية بأن الولادة من طريق المهبل غير ممكنة أو أنها محفوفة بالأخطار بسبب وجود عائق ميكانيكي تشريحي أمام عبور الجنين (مثل وجود حوض صغير أو كبر حجم الجنين)، وهذا العائق يمكن التعرف اليه بسهولة بفضل القياسات التي يتم الحصول عليها بدقة بواسطة التصوير بالأمواج فوق الصوتية. ومن الأسباب الأخرى الطارئة التي تتطلب العملية القيصرية: - كبر حجم الجنين بحيث لا يسمح بالمرور عبر القناة الطبيعية للولادة، وهذا الأمر يمكن معرفته قبل أن يحين موعد الولادة. - وجود الجنين في وضعية غير مناسبة، كأن يكون مجيئه جانبياً أو أن تكون مؤخرته متجهة نحو الأسفل. - التفاف الحبل السري حول عنق الجنين، الأمر الذي يعرض المولود للاختناق. - هبوط أو تدلي الحبل السري من عنق الرحم، ما يعرضه للانضغاط خلال نزول الجنين، وهذا يعرقل مد الطفل بالأوكسيجين اللازم. - انغراس المشيمة في وضعية معيبة كوجودها في أسفل الرحم الأمر الذي يحول دون امكانية توليد الطفل بالطريقة الطبيعية. - انقلاع المشيمة المفاجئ من جدار الرحم بحيث يصبح وجودها بلا هدف. - وجود نزف شديد يهدد حياة الأم والجنين معاً. - الحمل التوأمي، خصوصاً اذا كان أحدهما آتياً بالعرض. - انخفاض نبض الجنين أثناء الولادة أو على العكس تسارع نبضه. - في حال وجود سوابق ولادة قيصرية لمرتين أو أكثر تصبح الولادة بها حتمية. - إصابة الأم بمرض الهربس التناسلي تفادياً لانتقال العدوى الى الطفل. - اصابة الأم بأمراض خطرة مثل ارتفاع ضغط الدم. يوجد نوعان من الولادة القيصرية: الأول هو الولادة القيصرية الطارئة بسبب ظهور مضاعفات طبية تهدد حياة الأم أو الجنين أو الاثنين معاً. والثاني هو الولادة القيصرية المبرمجة التي يتم تحديد موعدها خلال فترة الحمل بناء على اتفاق بين الأم والأب من جهة وطبيب التوليد من جهة أخرى. وتكثر الولادات المبرمجة لأسباب شخصية بحتة خصوصاً في البلدان الغربية. ان الطلب على الولادة القيصرية المبرمجة التي لا مبرر طبياً لها يزداد سنة بعد أخرى، لا بل أصبح هذا النوع من الولادة «موضة» شائعة الى درجة أنها باتت تشكل 25 الى 40 في المئة من نسبة الولادات في بعض الدول المتطورة، وهذا ما دفع بعض المختصين الى اطلاق صفارة الإنذار بسبب الأخطار المترتبة عنها خصوصاً على الجنين المسكين الذي لا حول له ولا قوة. ان الدافع الأول الذي يتربع على عرش الأسباب التي تدفع الى الولادة القيصرية المخطط لها مسبقاً هو الرغبة العارمة في الحفاظ على الجمال والرشاقة. لقد سبق لدراسة سويسرية أن أكدت ان الولادة الطبيعة توفر أفضل فرص الحياة والنمو والتطور للطفل بالمقارنة مع الولادة القيصرية المبرمجة، وبحسب نتائج الدراسة، فإن الأطفال الذين يولدون بهذا النوع من الجراحة غالباً ما يحتاجون الى وضعهم في حاضنات أو تحويلهم الى عيادات الأعصاب، كما أنهم في سن الطفولة المبكرة كثيراً ما يصابون بأمراض الحساسية ويتعرضون الى أخطار تتعلق بالجهاز التنفسي أكثر من نظرائهم في الولادة الطبيعية. وفي دراسة حديثة نشرت في بداية العام الحالي في مجلة «لانسيت» الطبية جاءت النتائج لتؤكد أن الولادة القيصرية من دون أسباب طبية ملحّة هي أكثر خطراً على المولود بمعدل 14 مرة من الولادة الطبيعية، ووجدت الدراسة أن الحوامل اللواتي أجرين عملية قيصرية هن أكثر عرضة للوفاة أثناء الولادة وعانين من مضاعفات بالغة الخطورة تطلبت التدخل العلاجي الإسعافي، ونقل الدم، واستئصال الرحم. ان اختيار الولادة القيصرية المبرمجة على أساس انها بديل أسهل من الولادة الطبيعية هو اعتقاد مضلل وخطير للغاية وفقاً للمشرفين على الدراسة. ختاماً، تبقى جملة من النقاط: * يمكن الأم التحرك بعد القيام بالعملية القيصرية بعد 24 ساعة من إجرائها. * هناك بعض الأمور العادية التي قد تحصل بعد اجراء القيصرية مثل معاناة الأم من الدوخة والغثيان عند المشي او التحرك وضعف حركة الأمعاء وربما انسدادها. * ان خيار العملية القيصرية يجب أن يتم اتخاذه على أساس أنه يؤدي الى نتائج أفضل بالنسبة الى الأم أو الجنين أو للاثنين معاً وإلا فلا مبرر لها. * ان كمية الدم التي تخسرها الحامل أثناء الولادة القيصرية تعادل ضعفي الكمية التي تخسرها في الولادة الطبيعية. * في بعض المجتمعات يتم اللجوء الى القيصرية لأسباب اجتماعية وثقافية، كما الحال لدى عائلات في الصين والهند، إذ يسود اعتقاد لديها بأن من حسن الطالع أو من شؤمه أن يأتي الطفل الى هذه الدنيا في بعض الأيام أو التواريخ، لذا تعمد الى برمجة مواعيد قدوم مواليدها الجدد أملاً في دفع الشؤم عنها أو في تحقيق مستقبل أفضل. * أخيراً، ان اتخاذ قرار إجراء الجراحة القيصرية قد يكون وليد اللحظة الحتمية على أثر أمر طارئ حدث خلال الوضع، وهنا لا مفر للطبيب من الشروع في التنفيذ مكرهاً. [email protected]