حين يتلقى الموظف العام هدية أو عطية، متى يمكن إدراجها تحت بند الرشوة؟ وحين يتم شراء الأصوات السياسية، كيف يمكن ضمان نزاهة الانتخابات؟ وحين يسلب الجهاز المنوط بمراقبة تصرفات السلطة التنفيذية القدرة على مراقبة تنفيذ توصياته، فما الضامن لإصلاح الأحوال المعوجة؟ أسئلة كثيرة وبعض الإجابات طرحها في القاهرة أمس قائد فريق البحث في «تقرير النزاهة الوطني» (التابع لمنظمة الشفافية الدولية) الأستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتور أحمد غنيم. التقرير الذي يُتوقع أن يثير الكثير من الجدال، أقر بأن نظام النزاهة الوطنية في مصر شهد تطورات إيجابية عدة، لكنه سجّل أيضاً أن حالات الفساد تظل في ازدياد في ما يختص بالسلطة التنفيذية. إذ لاحظ التقرير أنه على رغم تعرض السلطة التنفيذية للمساءلة من قبل مجلس الشعب (البرلمان) المصري بموجب قوانين ولوائح تتيح إجراء تصويت على سحب الثقة مثلاً، إلا أن تلك اللوائح نادراً ما تُطبق في شكل تام. كما انتقد تقرير المنظمة عدم وجود قانون محدد لمحاسبة الوزارء، إذ تعاني آليات حماية المبلّغين عن المخالفات من إجراءات مرهقة تؤدي في النهاية إلى عدم تطبيقها. وعلى رغم وجود آليات تتيح للسلطة التشريعية مراقبة السلطة التنفيذية، إلا أن التقرير وجد أن علاقة السلطة التشريعية بالتنفيذية والقطاع الخاص تشوبها صعوبة الوصول إلى المعلومات وتضارب المصالح بين أعضاء البرلمان من الشخصيات البارزة. واعتبرت المنظمة السلطة القضائية في مصر «من السلطات الأقل فساداً والأكثر استقلالية بين الهيئات العامة، إضافة إلى تمتعها باحترام العامة». لكنها طالبت بتعزيز آليات النزاهة للقضاة. وعلى الصعيد السياسي أيضاً، وجد التقرير أن الأحزاب السياسية المصرية لا تلعب دوراً رئيسياً في عملية الحوكمة، باستثناء الحزب الوطني الديموقراطي الحاكم. وأفرد التقرير عدداً من الأسباب المعرقلة لذلك الدور، منها تقييد حرية التجمع والوصول إلى الإعلام الرسمي وغيرهما. كما أن قرارات لجنة الأحزاب السياسية تفتقر إلى الوضوح، لا سيما في ما يتعلق بقبول الأحزاب الجديدة ومراقبة مصادر تمويل الأحزاب. كما انتقد ظاهرة شراء الأصوات السياسية وتحيّز الإعلام الرسمي للحزب الحاكم. وعلى رغم الإشادة الواضحة بدور الجهاز المركزي للمحاسبات في مراقبة تصرفات السلطة التنفيذية ومختلف الهيئات العامة الأخرى، لا سيما في ما يتعلق بالإنفاق العام، إلا أن التقرير أشار إلى أنه يفتقد القدرة على مراقبة تنفيذ توصياته، كما أن تقاريره غير متاحة للاطلاع عليها من قبل المواطنين. ووصف التقرير القطاع العام المصري ب «المتضخم» و «يعتريه الفساد الكبير»، مشيراً إلى أن اللوائح التي تبت في معضلة تضارب المصالح وتلقي الهدايا والعطايا من قبل الموظفين والقضاة والمسؤولين الحكوميين تتسم بالضعف والثغرات التي لا تؤدي إلا إلى سلوكيات فاسدة. واضعو التقرير أشادوا غير مرة بالمبادرات الحكومية في مجال تعزيز القواعد الحاكمة لنظام النزاهة في القطاع الخاص، وتيسير اللوائح الخاصة بقطاع الأعمال، لكنهم طالبوا في ضوء المعطيات بضرورة وضع قواعد أكثر صرامة تحكم تضارب مصالح رجال الأعمال ممن يتقلدون مناصب تنفيذية وتشريعية. إشادة أخرى جاءت من نصيب المبادرات الحكومية المبذولة لتعزيز الشفافية في الإدراة المحلية المعروفة بانتشار نسب الفساد فيها وبين موظفيها، إلا أن قياس نجاح تلك المبادرات يحتاج مزيداً من الوقت. ويخلص التقرير إلى التسليم بوجود آليات تضمن ضوابط وتحقق الشفافية نظرياً، لكن غياب التطبيق أو عدم فعالية الضوابط، وفرض إجراءات مرهقة عوامل تعرقل الوصول إلى الهدف المنشود، ومن ثم تظل الفجوة قائمة بين حكم القانون وحكم الواقع في النزاهة في مصر. وأشار غنيم إلى أن أغلب ما ورد في التقرير من مظاهر فساد أو غياب شفافية ونزاهة يعرفه الجميع، لكن المعضلة كانت في التوثيق. وقال: «أنا كباحث أشعر بالفساد من حولي مثلي مثل أي مواطن، لكن المشكلة تكمن في توثيق ما أشعر به». ويبدو أن هذا «الشعور» انتاب كثيرين ممن حضروا إطلاق التقرير، إذ انتقد عدد منهم ما ورد فيه باعتباره «تحصيلاً حاصلاً ويعرفه الجميع»، معتبرين أن الحاجة في هذه المرحلة هي الآليات التي تضمن تنفيذ سبل محاربة الفساد وتطويقه، لا سيما أنه وصل حدوداً باتت أشبه بالمنظومة المعترف بها.