بات شائعاً استعمال مصطلح «الفجوة الرقميّة» Digital Divide في الإشارة إلى الهوة الواسعة التي تفصل بين البلدان المتقدمة في المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة وصناعة ال «هاي تيك» Hi- Tech من جهة، والبلدان المتأخرة عنها بمعنى أن دورها يقتصر بالكاد على الاستهلاك (وأحياناً تقليد ومساهمة هامشيّة) في ذلك المسار الرقمي المتطوّر. وبصورة تدريجيّة، صار مصطلح «الفجوة الرقميّة» يستخدم أيضاً لوصف التفاوتات في اللحاق بالتطوّر في الركب المعلوماتي- الاتصالي، داخل الدولة وشرائح المجتمع الواحد. وتدريجيّاً، ارتفعت نبرة اخرى تنادي بوضع الأمور في صورتها الواسعة، بمعنى أنها تربط الفجوة الرقميّة بأنواع اخرى من «الفجوات» بين الدول وداخل المجتمع الواحد، كالتفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والطبقية والثقافيّة والعمرية. والأرجح أن الفجوة الرقميّة تستند أساساً إلى التفاوتات الهائلة بين الدول الغنيّة والفقيرة. محتوى عربي يكرس التخلف استناداً إلى تعريفها، تتمدّد الفجوة الرقميّة، لتفصل بين الدول المختلفة. ويشمل ذلك مؤشّرات منها سرعة التوجّه نحو الحوكمة الرقميّة، وإدارة المعاملات اليوميّة للناس عبر الشبكات، والخروج من البيروقراطيّة الورقيّة التي لا تساهم إلا في تغذية «طوابير» من الأوراق والتواقيع والأختام، وتلك تستكمل دورة الفساد في أجهزة الدولة، وهو شيء رائج عربيّاً. وحتى في البلدان الغربيّة المتقدّمة، تستند الفجوة الرقميّة إلى الفوارق بين الأغنياء والفقراء في الوصول إلى المعرفة بواسطة المعلوماتيّة، وفي اميركا تظهر فروقات مماثلة بين البيض والسود، ما يعني أن الفجوة الرقميّة تستند فعلاً إلى ممارسات طبقيّة وعنصريّة متنوّعة، وليس إلى طابعها التقني المحض. لماذا تستمر الفجوة الرقميّة؟ هل يعمد المستفيدون منها على استدامتها، خصوصاً أنهم يديرون أدواتها تقنيّاً؟ يصعب الحسم في ذلك الأمر. تحضر في البال أيضاً مقولة المفكر الفرنسي ميشال فوكو بأن «من يملك المعرفة يملك السلطة». الأرجح أن ثمّة تعمّد يظهر عند التفكير بالأمور من تلك الزاوية. في المقابل، تبدو المعرفة متاحة تماماً على الشبكة، لكن هناك مشكلة في الوصول إليها بشكل سليم. هنالك احتمال آخر بأن يكون التعمد مباشراً عبر حجب المعلومات المرتبطة بعمل المؤسّسات. بذا، يتّخذ التعمّد هيئة القوننة في إدارة المعرفة، إذ تعتبر المعلومات الشيء الأعلى قيمة في سلسلة العملية الإنتاجيّة. وعلى نحوٍ بيّن، يعاني العالم العربي فجوة رقميّة هائلة. وفي معانيها، أنّ هنالك تدنيّاً في المحتوى الرقميّ العربي كميّاً ونوعيّاً (وبالتالي قيمة)، إضافة إلى تدني أهميته في نقل المعرفة. وبقول آخر، يساهم تدني المحتوى الرقمي عربيّاً في مفاقمة الفجوة الرقميّة التي تفصل العرب عن التقدّم، بدل أن يكون أداة في ردم تلك الهوّة! من هو الغوريلا؟ من المؤكد أنّ للافراد دوراً في نقل المعرفة، لكن ذلك الوصف يبدو غائباً على المستوى الاستراتيجي، بمعنى مسألة نقل المعرفة وتوطينها وتحديثها. والأرجح أن التقدّم في المعلوماتيّة والاتصالات هو مسؤوليّة الدولة بمؤسّساتها كافة. إذ تدفع الدولة الأفراد لتغذية المحتوى الرقمي وتعزيز انتشاره، كما تستطيع رفع إمكانات الأفراد في الوصول إلى المعلومات المتقدّمة، إضافة إلى الحصول على معلومات تساهم في ربط المعرفة بالاقتصاد والسوق والتشغيل وتطوير المؤسّسات وغيرها. في الآفاق عينها، تبرز الأسئلة عن دور محركات البحث في استمراريّة الفجوة، بل أنها تمثّل مظهراً تقنيّاً واضحاً لتلك الإشكاليّة. فمن دون هنيهة توقّف، تعمل محركات البحث على التفتيش عن المعلومات وتجميعها وتوصيفها وتخزينها، كي تصبح متاحة للجمهور عبر عمليات البحث المختلفة. ومما لا شك فيه أنّ «فلسفة» الإنترنت ومحركات البحث عليها، تخضع لمنطق السوق وليس معطيات الإنسانيّة ومصالحها العامة المشتركة. وهناك من يتحكّم في منطق السوق، عبر استغلال البيانات والتحكّم بخدمات الوصول إلى المعلومات. واستطراداً، تبدي محرّكات البحث حرصاً على عرض الإعلانات والدعايات على صفحات نتائج البحوث! وهناك مستوى من التحكّم بمحركات البحث، يدفع بعض المجموعات إلى الاعتقاد بوجود عنصريّة ما في المعلومات ومصادرها! ويقصد من ذلك أن محركات البحث تبدو كأنها «تحجب» المعلومات عن الفقراء والعرب والأفارقة وغيرهم. وربما هناك شيء من الطابع المؤامراتي لذلك النوع من التفكير، كما أنها تنمّ عن نظرة مبسّطة إلى الوقائع، وعدم تعمّق في الحقائق العلميّة المتّصلة بعمل محركات البحث والآليات المعقدّة تقنيّاً في برمجتها. ومنذ فترة، تتوافر في محركات البحث برامج تتعرف آليّاً على صور المستخدمين. وحدث أنّ شاباً أسوداً نشر صورة له ولزوجته، فتعرّف محرّك البحث «غوغل» عليهما باعتبارهما من فئة الغوريلا! وتقدمت شركة «غوغل» باعتذار بعدما أوضحت أن البرنامج المتخصّص بصنع أنماط للاستدلال على الوجوه، صمّم على أساس أن الغوريلا لها بشرة سوداء، ما أدّى إلى ذلك الاستخدام المملوء بالسخرية والعنصرية. وأعربت شركة «غوغل» عن أسفها، مع وعد بإعادة صياغة برنامج البحث عن الوجوه بما يكفل رفع ذلك الالتباس. وقبل فترة غير بعيدة، عرضت «غوغل» خريطة تبين فيها المناطق الأكثر عنصريّة في الولايات المتّحدة، مشيرة إلى أن المواطنين الأميركيين الأشد عنصرية، يقطنون جنوبالولاياتالمتحدة وشمالها الشرقي. وصُمّم البرنامج الرقمي الذي أدار الدراسة استناداً على معايير يستخدمها علماء الاجتماع لدراسة سلوكيّات الافراد. وارتكز على سلم بيانات محرك البحث خلال الانتخابات الرئاسيّة في 2012، التي أعادت رئيساً أفريقيّاً- أميركيّاً أسود البشرة، إلى البيت الأبيض. تفاوتات المجتمع الواحد استطراداً، هناك فجوات رقميّة بين الأفراد داخل الدول الغنيّة نفسها، على غرار التفاوت بين الشباب والجيل الذي ترعرع مع وجود الكومبيوتر والشبكات كمعطى بديهي، وبين الأجيال الأكبر سنّاً. وكذلك، تتصل الفجوة الرقميّة بعمليات إنتاج المعرفة والوصول إليها ونشرها وإدارتها. وترتبط الفجوة الرقميّة أيضاً بالتفاوتات في اللغة، لأنّ نسبة نشر المعرفة باللغة الأم تعزّز المحتوى الرقمي Digital Content لتلك اللغة، ويصبح إمكان الوصول إلى المعرفة متاحاً أمام الجميع. وفي المقابل، تسهّل معرفة اللغات الأجنبيّة الوصول إلى المعلومات، وتساعد في فهم العالم وأمور الحياة، إضافة إلى التعرّف إلى ثقافات مختلفة. كذلك، ترتبط الفجوة الرقميّة بالتعليم والبحث العلمي، بمعنى محتوى التعليم ونوعيّته وطرق تدريسه، إضافة إلى مدى تلاؤمه مع الاقتصاد وسوق العمل. إذ يفترض أن تكون الجامعات خزاناً للمعرفة تبنى المجتمعات على أساسه، عبر دعم التركيز على البحث العلمي بشرياً ومادياً. واستطراداً، لا حلّ لمعضلة الفروقات إلا بواسطة وضع بنية تحتيّة شاملة تتلاءم مع المتغيّرات كافة، بما فيها التقنيات. وكذلك من الأهمية بمكان، أن يباشر العلماء والباحثون عملية تبسيط النص العلمي الذي يمتلك وزناً كبيراً في نشر المعرفة المبسّطة عن العلوم. ويعزّز ذلك الأمر دور المعرفة في التفاعلات الاجتماعية، وعمليات اتّخاذ القرارات، وبناء مجتمعات ترتكز على المعرفة العلمية، لا على الخطابات الجوفاء التي يمارسها أهل السياسة في الدول العربيّة في شكل عام. كما تؤدّي التقنيات دوراً في إيصال المعرفة التي تخدم التنمية بشريّاً وتقنيّاً. وفي صورة إجماليّة، تعاني البلدان العربية من مشكلة في التعليم، خصوصاً تعليم التقنيات، وآليات البحث العلمي، والاستفادة الاجتماعيّة من العلوم المختلفة. وفي سياق متّصل، تتعلق الفجوة الرقميّة بالمهارات والكفاءات التي يتمتع بها أفراد المجتمع في تعاملهم مع التقنيات ومدى الاستفادة منها. ولا يعني مجرد حيازة حاسوب وألواح رقميّة وهواتف ذكيّة، خروجاً من الفجوة الرقميّة، لأن ذلك لا يحدث إلا إذا صارت تلك الأجهزة الرقميّة أدوات معرفية في الحياة اليوميّة، بمعنى اندراجها في تقدّم المجتمع اقتصادياً وتربويّاً وتعليميّاً. اختصاصي لبناني بألسنيّات الكومبيوتر