هل سيكون مستطاعاً فعلاً وقف الزيادة في الاحتباس الحراري عند عتبة درجتين مئويّتين عند نهاية القرن، وتجنب مخاطر لا قِبَلَ لأحد بها جراء التطرّف المناخي الذي بات يهدّد استمراريّة الحياة على كوكبنا؟ إنه سؤال اللحظة لبلايين البشر ممن يريدون العيش في سلام، وتجنّب غضب الطبيعة التي ناءت بما رُميت به، بفعل نشاطات غير مسؤولة للبشر. وتتجه الأنظار الآن إلى باريس التي تستضيف مؤتمراً دوليّاً يفترض أن يكون حاسماً في شأن المناخ، في 11 كانون الأول (ديسمبر) المقبل. ويحضر المؤتمر الذي يحمل اسم «كوب 21» Cop21، الدول الموقّعة على «اتفاقية التغيّيرات المناخيّة»، ويصل عددها إلى 195 دولة، والتي رأت النور في العام 1992. ويأتي «كوب 21» في لحظة فارقة عالميّاً، مع تكرار التذكير بأن المناخ هو شأن يخص الكرّة الأرضيّة كلها، لأنه ليس عنصراً محليّاً لأي دولة. تتميّز اللحظة الراهنة باستمرار زيادة انبعاثات غازات الدفيئة المسبّبة لظاهرة الاحتباس الحراري، وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون. ولا بد من التوصّل إلى اتفاق عالمي قانوني ملزم بشأن المناخ، بعد انتهاء الاتفاق الدولي الملزم الذي اشتهر باسم «بروتوكول كيوتو». وقع «بروتوكول كيوتو» في 1997، ودخل مرحلة التنفيذ الملزم في 2005، من الناحية النظرية على الأقل. ومنذ توقيعه، وقع تحت ضربات التلكؤ والتباطؤ والاعذار المختلقة والتملّصات غير المباشرة، والانسحابات المباشرة (كما فعلت الولاياتالمتحدة على يد الرئيس الجمهوري جورج دبليو بوش، وهو تزعّم المحافظين الجدد المناوئين للاصلاحات بشأن البيئة)، إضافة الى النقاشات العالية الضجيج والعديمة الجدوى وغيرها. وفي العام 2012، دخل البروتوكول مرحلة انتهاء الصلاحيّة، مع افتراض التوافق على بديل آخر. ولم تتمكن الدول من التوصل الى اتفاق بشأن المناخ، يكون له طابع الالزام. وجرى الاحتفاظ ب»بروتوكول كيوتو» بقوة الاستمرار، وبفعل غياب البديل! الصعود إلى هاوية الاحتباس تحذّر تقارير عالميّة من أنّ غازات الاحتباس الحراري التي تناولها «بروتوكول كيوتو»، زادت بنسبة 80 في المئة منذ عام 1970 و30 في المئة منذ عام 1990، وبما يعادل 49 غيغاطن من ثاني أكسيد الكربون المكافئ في العام 2010. والآن تتجه تلك الانبعاثات إلى زيادة ب 2 في المئة سنوياً وصولاً إلى 2010. وإذا استمر ذلك الحال، فذلك يعني زيادة في درجات الحرارة تتراوح بين 3.7 درجة مئوية و4.8 درجة مئوية، عند الوصول إلى عام 2100. وليتحقق هدف ألا ترتفع الحرارة أكثر من درجتين مئويتين عند نهاية القرن، لا بد من أن تقل الانبعاثات بنسبة تتراوح بين 40 و 70 في المئة عام 2050، بالمقارنة مع مستوياتها في 2010. ولعل التقرير الخامس ل«منتدى الحكومات عن تغيّر المناخ» Intergovernmental Panel on Climate Change، وهو هيئة علميّة تعمل بإشراف للأمم المتحدة، يُشكّل صرخة تحذير واضحة عن زيادة انزياح المناخ إلى مزيد من التطرّف، مع ما يرافق ذلك من أعاصير وعواصف عاتية وفيضانات كاسحة وذوبان جليد واسع في القطبين المتجمّدين للأرض. وتتوزّع الانبعاثات العالميّة المُسببة للاحتباس الحراري على قطاعات عدة. إذ يأتي من قطاع الطاقة 35 في المئة منها، و18 في المئة من الصناعة، و14 في المئة من النقل، و14 في المئة من الزراعة، و10 في المئة من قطع الغابات، و6 في المئة من البناء، و3 في المئة من المخلّفات. وتؤكّد تلك الحقائق أنه لا يوجد سيناريو بديل أمام العالم سوى التوصّل في قمة باريس، لاتفاق ملزم بشأن انبعاث غازات التلوّث المسبّبة للاحتباس الحراري، وفق تعبير بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة. وفي حال التوصّل إلى ذلك الاتفاق، يفترض أن يبدأ تنفيذه في 2020. درجتان وإلا... في تقرير صادر عن «منتدى الابتكار المستدام»، بالتعاون مع «برنامج الأممالمتحدة للبيئة»، هناك ما يزيد عن تسعين دولة تتخذ إجراءات قويّة لمكافحة تغير المناخ، ولكنها إجراءات لا تكفي حتى الآن لوقف زيادة حرارة الأرض عند عتبة درجتين مئويتين. وهناك نقص في تحديد الأهداف لدي كثير من الدول. ويدعو التقرير إلى خطوات جادة في الزراعة، والطاقة المتجدّدة، ومنع تدهور الغابات. وأُدرج الحدّ من تغير المناخ في الأهداف الرئيسة ل«وثيقة التنمية المستدامة 2015-2030» التي وقّعتها دول العالم في أواخر أيلول (سبتمبر) الماضي، إلى جانب القضاء على الفقر ومحاربة عدم المساواة. وحملت تلك الوثيقة شعار الكرامة الإنسانيّة. ويثير الشعار أسئلة عدّة حول جدوى الوثيقة ومستقبلها، إذا لم تتفق الدول في باريس على وثيقة عادلة تواجه أكبر تحدٍ يهدّد البشرية، وتحقق آمال كل الشعوب، ويفض الاشتباك بين الدول المتقدّمة والدول النامية، الذي تدور رحاه منذ «بروتوكول كيوتو». وخلف «كوب 21»، هناك رحلة امتدّت 21 عاماً تشمل محطّاتها «خطة عمل بالي»، ومؤتمر «كوب 15» في كوبنهاغن 2009، و«قمة دوربان- 2011» في جنوب أفريقيا التي شهدت إنشاء «صندوق المناخ الأخضر»، و«قمة ليما 2014» التي انطلق منها نداء عالمي لاتفاق جديد في باريس. وبين يدي العالم الآن مسوَّدة وثيقة عالمية، والتفاوض على أشدّه للاتفاق عليها. وكذلك لا تزال هناك نقاط ساخنة عالقة بين الدول المتقدمة من جهة، والدول النامية من الجهة الثانية. من يدفع ثمن التلوّث الذي حدث؟ هل ستلتزم الدول المتقدمة بما وعدت به من دعم «صندوق المناخ الأخضر» الذي يحتاج إلى مائة بليون دولار سنوياً؟ وهل تسهل نقل التكنولوجيا إلى الدول التي تحتاجها؟ لماذا يتجه معظم التمويل إلى مشروعات التخفيف المعنية بإجراءات الحدّ من الانبعاثات، ولا تهتم بالقدر نفسه بمشروعات التكيّف والتأقلّم مع آثار التغيرات المناخية التي تعاني منها كثير من الدول فعليّاً الآن؟ يضع التقرير ملاحظات مهمة من واقع تحليل مشاركات الدول. يشمل ذلك أن التحضير للخطط الوطنية لم يأتِ من الحكومات وحدها، بل جاء من جهود الخبراء والإدارات المحليّة والمجتمع المدني. وفي بيرو، شاركت أكثر من 13 وزارة و300 خبير، وفي كولومبيا شارك البرلمان بقوة. وفي اليابان، قاد رئيس الوزراء العمل، وهو ما حدث في دولة «ساحل العاج» أيضاً. وشارك المجتمع المدني في أكثر من ستين دولة. وجمعت نيوزيلاندا ما يزيد عن 1500 من التعليقات عبر موقع وزارة البيئة. ولم تقدم المشاركات مجرد أهداف كميّة في شأن تقليل انبعاثات الاحتباس الحراري، بل أظهرت أيضاً التوجّه للاستدامة وتبنّي نماذج تنموية تهدف إلى تحقيق مستويات منخفضة من انبعاثات غازات الدفيئة. وظهر ذلك في دول كفانتاو وبابوا وغينيا الجديدة، وفيها يسود الأمل بتحقيق هدف الحصول من طاقات متجددة على مئة في المئة من حاجات الطاقة، خلال الأعوام ال15 المقبلة. ويذكر التقرير أيضاً، أن هناك قضايا احتلّت أولوية اهتمام الدول، منها الطاقة المتجدّدة، والحاجة الى تبادل الخبرات ونقل التكنولوجيا في ذلك المجال. وهناك اقتصادات صناعيّة كبرى تخطّط لاهتمام أكبر بالطاقة المتجددة. إذ تأمل اليابان بالحصول على قرابة 24 في المئة من مجمل إنتاجها من الطاقة في العام 2030، من الطاقات المتجدّدة، فيما الرقم لامس ال13 في المئة عام 2013. ويسعى الاتحاد الأوروبي إلى الحصول على 27 في المئة، وتوصّل إلى 11.8 في المئة في عام 2013. ومن الموضوعات التي حظيت أيضاً بأولويات الدول، مسألة الإدارة المستدامة للغابات. إذ تنوي المكسيك القضاء كليّاً على تدهور الغابات في عام 2030، وكذلك هي الحال بالنسبة إلى البرازيل. وتخطّط الكونغو الديموقراطية لزراعة 3 ملايين هكتار حتى عام 2025. وتهدف كمبوديا إلى تغطية 60 في المئة من أراضيها بالغابات في العام 2030. ويذكر التقرير، أن التكيّف مع التغيّرات المناخية حظي بأولوية ما يزيد عن ثلثي الدول التي تقدّمت بتقارير تتضمّن اقتراحات بضرورة إدماج مشروعات التكيّف مع تغيّر المناخ في خططها الوطنيّة. ويشمل ذلك بوركينا فاسو التي تهدف الى حماية الأراضي التي تتعرّض للفيضانات في المدن. وتخطّط جزر المالديف لنقل الميناء التجاري من العاصمة إلى منطقة أخرى أقل تعرّضاً للرياح ولتهديد الارتفاع في مستوى سطح البحر. وذكرت أكثر من خمسين دولة أنها تأمل بإنشاء نظام للإنذار المبكّر للمساعدة في مجابهة حوادث المناخ المتطرّفة وحماية السكان. وفي نفسٍ مُشابِه، أعطت الدول اهتماماً كبيراً لمواجهة التحديات المناخيّة وأدمجتها في الخطط والاستراتيجيات الوطنية للتنمية. إذ تعتبر كولومبيا ذلك أساساً لتحقيق السلام والعدالة والنهوض في التعليم. وفي مقدونيا، سيُجرى توفير ستة آلاف وظيفة خضراء في العام 2030. وتسعى تونس الى توفير 58 ألف وظيفة خضراء، والسنغال أربعين ألفاً. وتتّبع جزيرة كيريباتي سياسة الاعتماد على الطاقات المتجدّدة عبر تقليل استيراد الوقود الأحفوري. ويلاحظ التقرير عينه اتجاهاً قوياً بين عدد من الدول النامية لتدعيم التعاون بينها. إذ تأمل الصين بإنشاء آلية لتمويل التعاون الجنوبي - الجنوبي لمواجهة تغيّرات المناخ. وتضع قضية التمويل خطط الدول على المحك، إذ تبيّن مدى استطاعتها تأمين التمويل المناسب لكل الطموحات، مع ملاحظة أن مجموع التمويل المطلوب عالمياً يصل إلى قرابة مئة بليون يورو سنوياً.