من الأشياء المخيفة بالنسبة إلى بعض الكتاب ترجمته إلى لغة أخرى يتحدثها شعب يحمل ثقافة مختلفة تماماً عن ثقافته، كيف سيستقبلني هؤلاء الناس؟ كيف ستبدو محاكماتهم لما كتبت من خلال ثقافتهم التي لا أعرف عنها الكثير؟ لكن فاليريا باريللا، الروائية الإيطالية التي ترجمت حديثاً إلى العربية عبر روايتها «عندما يتشح العالم بالبياض»، كانت على العكس من ذلك. وتَرجمَت هذه الرواية من الإيطالية إلى اللغة العربية الزميلة حليمة خطَّاب، لحساب مؤسسة «بَعدَ البحر» في القاهرة. لم يكن لدى فاليريا باريللا، التي التقيناها على هامش زيارتها أخيراً للقاهرة، أفكار مسبقة عن الأمر ولم تُخفها الطريقةُ التي سيستقبلها بها القراء العرب، إذ إن «القُراء هم القراء في أي بقعة في العالم، والشغوفون منهم بالقراءة على وجه الأخص هم من أتوجه إليهم بروايتي وأشعر حيال حيازتهم لكتابي بالطمأنينة»، على حد قولها. ما شَغلَ بالَ فاليريا باريللا وقضَّ مضجعها ليس ترجمة روايتها إلى العربية، بل تحويل «حينما يتشح العالم بالبياض» إلى فيلم سينمائي، خصوصاً أنها لم تكن الترجمة الأولى للغات أخرى عن الإيطالية، لكنها المرة الأولى التي تمر فيها بتجربة تحويل ما كتبته إلى صورة، فمن الصعب أن تتصور أن كل ما تخيلته عن شخصيات رواية ما وطرائقهم في العيش وحركاتهم والأحداث التي داروا في دوامتها ودارت قبل ذلك في ذهنها خطوة خطوة، سيمنحها إنسان آخر لمسة من خياله ثم يثبتها في كادر سينمائي وصورة بصرية لا تقبل التبديل ابتداء من هذه اللحظة، إلا أن الروائية بِنت الأربعين سنة هادئة الملامح، لم تنسَ أن تبتسم في ختام حديثها عن الفيلم بارتياح معبرة عن رضاها التام بما شاهدتُه قبل العرض على الجمهور، مؤكدة أن ما قام به المخرج وفريق العمل طابق توقعاتها تماماً. كانت فاليريا قد أنتجت قبل روايتها هذه ثلاثة كتب ما بين المسرح والقصة القصيرة، وكتاباً واحداً عن الموسيقى، وهو ما ذكرته هنا لتؤكد أنها ما زالت تمضي في مسيرتها الأدبية من دون الارتكان إلى مشروع واضح. وهذه الرواية، التي لاقت استحساناً كبيراً في إيطاليا، هي روايتها الأولى، وبحسب تعبيرها، فإن استجابات النقاد والكتاب الإيطاليين حول الرواية أتت مبشرة، وكانت مفاجأة سارة بالنسبة إليها أن يتم وصف «حينما يتشح العالم بالبياض» بالعمل الفارق في تاريخ الأدب الإيطالي، «ثم أتى اهتمام القراء بالكتاب لتتم سعادتي بمنجزي الروائي الأول» كما تقول. وأولى المركز الثقافي الإيطالي في القاهرة، تلك الرواية اهتماماً واضحاً عبر حفلات توقيع عدة. ولم يبتعد الحوار مع فاليريا باريللا كثيراً عن التلميح إلى نقاط مهمة من الواقع العربي والعالمي، فروايتها لم تكن لتخلو، على بساطتها البادية، من الاهتمام بالإنسان في عمومه باعتباره نواة للعالم بصرف النظر عن وطنه أو جنسه، فكما تحدثت عن إيطاليا الحي اليوناني ومدينة نابولي الملأى بالمهاجرين في سبعينات القرن الماضي، تحدثت أيضاً عن المهاجرين الذين رسوا في بلدها على حلم تأسيس حياة أفضل في وطن مختلف، «إلا أن هؤلاء الناس عانوا في السبعينات في شكل كبير ويعانون الآن في شكل أشد، فالوضع لم يتحسن بالنسبة إليهم، بل زاد سوءاً». لا أعتقد أن الكاتب يعيش بمعزل عن الهم العام، ولم يكن الحوار مع فاليريا باريللا عن المهاجرين إلا دافعاً للحديث عن الأزمة السورية الراهنة والوضع الفظيع الذي يعانيه اللاجئون السوريون في الكثير من دول العالم، وهي ترى أن ما تشعر به الشعوب، يختلف كثيراً عما تراه الحكومات، فمن المؤكد أن الإيطاليين يتعاطفون مع اللاجئين السوريين ويودون استقبالهم وتوفير ظروف معيشية تضمن الحد الأدنى من العيش الإنساني لهؤلاء، إلا أن الحكومة في إيطاليا كما في أوروبا وأي منطقة من العالم تفكر في شكل مختلف، فهي تضع في اعتبارها التفضيلات الاقتصادية والسياسية قبل كل شيء، و «كنتُ أتمنى أن تحذو إيطاليا حذو ألمانيا في فتح أبوابها للاجئين السوريين، لكن الوضع الاقتصادي المتدهور لدينا يدفع الإيطاليين أنفسهم إلى الهرب»، كما تقول. «إيطاليا الآن تختلف كثيراً عن إيطاليا السبعينات التي تحدثت عنها الرواية»، هكذا تؤكد فاليريا باريللا، فهي عندما تعقد المقارنة بين طباع الإيطاليين منذ أربعة عقود وبينها الآن تجد أن طفرة كبيرة قد حدثت، وهي تشبه بالتمام المقارنة بين شخصين أحدهما على سجيته وفطرته الأولى ويشعر بأنه جزء من منظومة الحياة والكون وبين آخر تحول إليه يتمتع بالخبث والدهاء والأنانية ويشعر دائماً بالوحدة، ربما يكون للسياسة دخل بهذا الأمر، وربما تدهور الأحوال الاقتصادية واتساع الفروق بين الطبقات الاجتماعية هو السبب. وهي عندما تسترجع تاريخ إيطاليا، تجد أن الشيوعية التي تحدثت عن فشلها في أوروبا وجسَّدت هذا الفشل في شخصية الجد في روايتها الوحيدة، لم تطبق في إيطاليا قط، بل عايش الإيطاليون الفاشية بدلاً منها. وأضافت بشيء من الحسم: «كان للرأسمالية دور مهم في التأصيل لحريات الأفراد، لكن على الجانب الآخر نجد أنها زادت الفوارق بين الطبقات الاجتماعية، وساهمت في إنتاج أفراد يشعرون بأنهم فارغون نفسياً ووحيدون تماماً»، وبالإضافة إلى ضبابية حديثها عن الشيوعية والرأسمالية كأيديولوجيات سياسية، فهي تتحدث بعدم اهتمام تجاه الأيديولوجيات الفكرية الأخرى ف «الألم هو الألم، والأيديولوجيا وخبرات الحياة وكل هذه الأمور لن تحميك من مواجهته». عند الحديث عن روايتها «حينما يتشح العالم بالبياض»، لم يكن هناك مفر من السؤال عن ماهية الحياة والموت بالنسبة إلى صانعة الحكاية، فقصة بسيطة عن امرأة تلد ابنة مبتسرة هي كل ما تبقى لها من الدنيا لكنها ولدت على بعد خطوة من الموت، وتضطر لإيداعها الحضانة لفترة طويلة يدهمها خلالها القلق والخوف، ففي هذا المكان الغارق في البياض «الحضانة»، تدور الجدلية الأبدية بين لحظة الميلاد ولحظة الموت، لكنهما هنا بالنسبة إلى طفلة البطلة لحظتان مختلطتان يصعب الفصل بينهما. لحظة الحياة يمكن أن تكون هي الموت نفسه والعكس صحيح، وفاليريا نفسها التي عبَّرت عن اتفاقها مع جملة لأحد الفلاسفة الألمان عَلَقت في ذاكرتها واسترجعتها للتو عند الحديث عن هذه الثنائية المقلقة «ولدنا لنموت»، ثم عاودت بشيء من روحانية دينية يبدو أنها تتوشح بها في مواجهة أناها الآخر ككاتبة مفكرة، وما أدرانا، فربما يكونا نصفي الوجه اللذيْن تراهما لازمين لإتمام تصورها الشخصي عن نفسها، «والمؤمنون بوجود الله يدركون أن الحياة ما هي إلا مقدمة للموت، أو ما بعد الموت».