«لو كان الأمر بيدي لرفعت قضية على الأولاد الذين تطاولوا على ضابط الإسكندرية. لكن اليد قصيرة والعين بصيرة». عين الرجل المستاء من موجة السخرية التي اجتاحت تدوينات ال»فايسبوك» وتغريدات «تويتر»، كانت تنظر إلى صورة لضابط شرطة ممتلئ القوام يقف في أحد شوارع الإسكندرية يوم غمرتها مياه الأمطار. ولا يعرف الرجل المستاء معنى كلمة «هاشتاغ»، ولا يملك من وسائل التكنولوجيا الحديثة سوى هاتف محمول غير متصل بالشبكة العنكبوتيّة. لم تعد الشبكة العنكبوتيّة التي ساهمت في اشتعال «ثورة يناير 2011» ووصفتها النُخَب بأنّها صاحبة الفضل الثوري فيها، تتمتع بتلك الهالة من التبجيل التي كانت تحظى بها شعبياً. وعلى رغم أن الرجل وغيره كثيرين ليسوا متّصلين بالشبكة، لكنهم على دراية بما يجري على متنها، إذ يتحدّث سائقو الباصات وعمّال النظافة وبائعات الخضروات، عما يجري على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي مجريات يسمعون عنها ويلمّون بها عبر متابعاتهم التلفزيون ومحطات الإذاعة. والمعايش لنبض الشارع المصري يمكنه أن يلاحظ تغيراً في نبرة التأييد لل»ويب»، وتحولاً في نغمة الغزل حيالها، وهي أمور كانت تبرز بجلاء قريب من وضوح الشمس، في أحاديث البسطاء، حتى أشهر قليلة. مضت «أم هلال» تحصي حصيلة مبيعات «فرشة» الفاكهة على رصيف متاخم لمحطة مترو الأنفاق، ثم قالت من دون أن ترفع عينيها: «كنا معهم حين كانوا يرفعون مطالبنا وينقلون مظالمنا، من دون غاية أو غرض. أما اليوم، فهم يتحدثون عنا من دون أن يتكبّدوا عناء النزول إلى الشارع ليرونا بأعينهم بدلاً من شاشاتهم التي لم تعد تعبّر عن الشعب بقدر ما تعبّر عن أدمغتهم والشعب الذي ينتمون اليه». الشاشات والغرق إشارة «أم هلال» إلى شعبين، أحدهما شعب الإنترنت والآخر شعب مصر، ليس غريباً الآن. وعلى رغم إنها لم تر بعينها صفحة «فايسبوك» ولم تتابع تغريدات «تويتر»، إلا إنها تعرف جيداً عما تتحدث عنه. «أتكلم عن الشباب الغارقين في هواتفهم وأجهزتهم، ويقولون أنّهم يمثلوننا لكنهم يكذبون». تعود «أم هلال» وتخفّف حدة حديث التكذيب، وتقول: «ربما يكذبون بحسن نية أو من دون علم، لكنهم على الأقل لا يعرفون إنهم لا يعرفون». ولا تقلّ كلمات «أم هلال» حكمة عن حكمة أهل الشبكة العنكبوتيّة المطالبين بإصلاح شامل وتغيير كلي وتطهير من الألف إلى الياء لمصر، لكن كليهما يقفان في مواجهة عنيفة مع الآخر. وتمثلّ «أم هلال» قطاعاً من المصريين من مختلف طبقات الهرم الاقتصادي والاجتماعي ممن آمنوا بثورة التغيير وشربوا نيران التبديل. وبعد ذلك، عادوا صاغرين متخلّين عن أحلام حلّقت في السماء ومتشبثين بما تبقى من فتات، ولو كان ذلك على حساب ملامسة سقف التوقعات لأرض الواقع. وفي المقابل، يقف البعض من أهل الشبكة العنكبوتيّة على قمة أهرامهم الافتراضيّة متشبثين بتلابيب التغيير ومكامن التبديل ولو كان ذك بأثمان باهظة أو كلفة صارخة، من منطلق «إن عشقت إعشق قمر/ وإن سرقت إسرق جمل/ وإن ثرت كمل ثورتك مهما كان الثمن» حسبما كتب أحدهم على إحدى صفحات «فايسبوك». وبالنيابة عن ضابط الإسكندرية الذي صار بين ليلة ممطرة وضحاها، حديث الشبكة العنكبوتيّة و»هاشتاغ» تويتر الأكثر تداولاً، وموضوع حوارات البرامج الفضائية، أطلقت مجموعة من الأفراد حملة اعتذار عنكبوتي للضابط. ورأت المجموعة في الاعتذار رداً على حملات السخرية التي خلطت «انتهاكات الشرطة» و»حكم العسكر» و»كرش الضابط» و»غرق الإسكندرية» و«فشل الإدارة» وغيرها، لتكون الكلمات وال»هاشتاغات» المصاحبة للضابط. وتحول الأمر تراشقاً بال»هاشتاغات»، وتناحراً بالتدوينات، وتبادلاً لاتّهامات بين «شعب منبطح سلّم بحكم العسكريّين الفاشي والشرطة الفاسدة» (كما كتب أحدهم)، و»شعب افتراضي لا يملك سوى نشر الإحباط والبذاءات والسخرية على خلق الله من خلف الشاشات» كما كتب آخر. عشاء العميل والمعارِض! آخر ما كان يتخيله علي البحراوي (25 عاماً) أن ينعته أحدهم ب»الخائن العميل» وكلمات أخرى يعاقب عليها القانون، إذ يعتبر البحراوي نفسه جزءاً من شباب الثورة، ووصل عدد متابعي حسابه على «تويتر» (يعمل تحت إسم كودي)، إلى ما يزيد على 60 ألف شخص. وكثيراً ما كان يتلقى رسائل تحيي فيه روحه الوطنيّة وانتماءاته الثوريّة ورغبته العارمة في التغيير من أجل إصلاح البلاد، إضافة إلى ارتفاع عدد إعادة التغريدات التي يكتبها، ما كان يضعه في مصاف الأكثر تغريداً. يعترف البحراوي بأنه ربما توقّع أكثر مما ينبغي من الثورة، وتوسم أعلى مما يمكن من الشعب المطحون، لكنه يؤكد أن كل ما يكتبه نابع من حب شديد لمصر والمصريين. يقول: «أعترف أيضاً بان الغالبية اليوم تقف في مكان آخر غير ذلك الذي يقف فيه كثيرون من المغرّدين والمدونين على صفحات الإنترنت. ربما يكون ذلك فارقاً في السرعات، أو خلافاً في أسلوب التغيير أو إيقاعه، أو تباينا في الأولويات، لكنه من المؤكد انه لا يمت للخيانة أو العمالة بصلة». الصلة بين الشعبين أيضاً افتراضية وكذلك الهوّة. فالبيت الواحد تجد فيه مدوّناً عنكبوتياً ينتقد الشعب لتأييده للنظام الحالي وسكوته على إخفاقات وسلبيات، ومغرداً تويترياً معترضاً على السياسات ومبرزاً التحديات لكن مبق على شعرة معاوية مع النظام بحكم أنه أفضل السيناريوات، ومواطناً واقعياً منقلباً على كليهما باعتبارهما محلّقين في الفضاء غير آبهين بما يجري على خارج عتبة الباب. ويجتمع ثلاثتهم الى طاولة عشاء واحدة وينفقون من دخل واحد ويعيشون في بلد واحد، سواء كانت عيشة افتراضية أم واقعيّة أم ما بينهما. - انقسام«شعب الإنترنت» خسر «فايسبوك» و«تويتر» وغيرهما من وسائل الشبكة العنكبوتيّة التي خلطت الواقع بالافتراضي، جانباً كبيراً من شعبيتهما لدى جموع المصريين. ويلاحظ الضالعون في دوائر النشاط العنكبوتي المصري تشعّباً كبيراً وتغيّراً عميقاً في تدوينات المصريين وتغريداتهم العنكبوتيّة. وبعيداً من حال الرضا شبه العامة التي كانت سائدة في سنوات ما قبل «ثورة يناير» والفترة القصيرة التي تلتها، حين تكوّنت لجان إلكترونية نشطت وانتشرت مع بزوغ نجم تيارات الإسلام السياسي، انقسم «شعب الإنترنت» في مصر، منذ حزيران (يونيو) 2013. فقبل ذلك التاريخ، كان هناك ما يشبه الجبهة الموحدة بموقف شبه ثابت، حيال اجتثاث الفساد والتخلّص من كل ما يتصل بمفاهيم ومنظومات تنتمي لنُظُم مصريّة سابقة، بدءاً بإبعاد الجيش عن السياسة، مروراً بمهاجمة الشرطة وأدائها الذي يشوبه العنف والإهمال والتعالي، وانتهاء بانصراف الشعب عن السياسة ودهاليزها وانغماسه في الفقر والكرة ومشكلاته اليوميّة. ولكن، بعد حزيران 2013، تشعبت المواقف وتعالت الأصوات المناهضة لنشطاء التغيير الذين كانوا ملائكة لا تنقصهم سوى الأجنحة حتى الأمس القريب، فإذ بهم ينقلبون شياطين وعملاء وخونة وعلى أقل تقدير «شويّة عيال». «شويّة العيال» الذين أجّجوا «ثورة يناير» وفق وصف جاء من نُخُب مصريّة في عام 2011 على رغم معارضة قطاعات عريضة من المصريين، بات الآن من أكثر التعبيرات استخداماً من الشعب القابع في الشارع. وتستنكر «أم هلال» أن تتحكّم «شويّة عيال» في مصيرها وتتحدث بإسمها، معتبرة أن تلك القلّة باتت «تعتبر نفسها فوق البلد وفوق القانون وفوق الشعب». وعلى رغم أنّها تشكو الأمرين من شظف العيش ومشكلات تراوح بين تهديدات بإزالة بضاعتها بتهمة «إشغال الطريق»، ومداهمة غيبوبة السكر لها، ومطالبة «هلال» لها بمبالغ إضافيّة لمجموعات التقوية في المدرسة، إلا إنها ترفض أن يتحدث أولئك بالنيابة عنها.