بات في لبنان مدرسة إبتدائية للوطنية، توزع فيها العلامات وشهادات التقدير بقياس مقدار الحماسة والصوت الجهوري. في هذه المدرسة فشل ساري حنفي في اختباره الأخير. لم يمنحه الأساتذة شرف الاعتراف بجهده البحثي الذي بدأ في عام 2003 ولا هم تكلفوا أصلاً عناء قراءته. فبحسبهم، هم الأكاديميون في الجامعة الأميركية في بيروت، يقرأ المكتوب من عنوانه. وعنوان حنفي لم يكن موفقاً هذه المرة على ما يبدو. فأي ذنب أعظم من أن يجاور اسمه، هو الفلسطيني المقيم في لبنان، اسمي أستاذين إسرائيليين شاركاه البحث وكتابة فصول من كتاب «سلطة الإقصاء الشامل» الصادر عن دار نشر نيويوركي؟ لا شك في أن المسألة تثير حساسيات كثيرة في بلد مثل لبنان، حيث الجبهة مع إسرائيل جرح لا يكاد يندمل حتى ينزف من جديد. لكنه أيضاً جرح جعل من إشهار سيف التخوين أمراً سهلاً، وحوّل الممانعة، لا بل المغالاة فيها، الباب الوحيد للتعبير عن «الوطنية». ربما توقع حنفي ومن حوله أن يثير الكتاب بعض الضجة والتساؤلات، لكنهم على الأرجح لم يذهبوا في خيالهم إلى حد افتراض أن تنطلق ضده حملة تتهمه ب «التطبيع الفكري والثقافي مع إسرائيل» عمادها نحو 274 توقيعاً من زملاء وطلاب وخريجين في الجامعة الأميركية في بيروت حيث يدرّس. ولم ير هؤلاء المتحمسون في بحث حنفي الذي لم تطلع عليه غالبيتهم، إلا مشاركة «الأعداء» في النشر وتبادل الأفكار وهو في عرفهم خرق واضح وصريح لقرار مقاطعة إسرائيل. وانبرى الأكثر حنكة بينهم يقول إن في ذلك تجاوز للقوانين اللبنانية التي تحظر التعامل مع أي فرد إسرائيلي على أي صعيد كان. ولم يعمد أصحاب الحملة إلى توقيع عريضة أو نشر بيان يحمل وجهة نظرهم كأفراد وينأى بهم عن عمل زميلهم، وهو حقهم الطبيعي، بل نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم الجامعة وطالبوا إدارتها أن ترفض وضع اسمها إلى جانب أسماء جامعات إسرائيلية، وكأن ذلك ينفي حقيقة أن حنفي يدرس ويحاضر فيها. واتخذت الحملة منحى أكثر جذرية، فعقد زملاء لحنفي ما كان يفترض إنه ندوة بين أهل البيت لتوضيح مختلف وجهات النظر، فإذا بها جلسة أقرب إلى المحاكمة، خرج بعدها حنفي وقد أعلن «توبته». وأمام من تذرع بالقانون، لم يشفع لحنفي أنه كان بدأ العمل على بحثه المنشور في الكتاب منذ 2003 أي قبل فترة من انتقاله إلى لبنان وخضوعه لقوانينه. ذنبه أن الكتاب نشر الآن. ولم يشفع للمتهم أيضاً تكراره وإصراره على التأكيد أن عمله غير ممول من مركز أبحاث إسرائيلي وأن الهدف الأساسي والمعلن في مقدمة الكتاب «نزع الشرعية عن إسرائيل كدولة وسلطة». ولمن اتهمه بالتطبيع الفكري والثقافي لم تمنحه سيرته «النضالية» حصانة ولا كون شريكيه في «الجرم» باحثان مناهضان للصهيونية، بذلا جهداً أكاديمياً فعلياً للدفاع عن قضية أثقلها «الممانعون» بكثرة الشعارات. والواقع أن حنفي لمن يعرفه وتابع بعض أعماله وأبحاثه السابقة، قد يشعر بميل إلى الاختلاف معه لا لمواقفه «التطبيعية»، وإنما لفرط حماسته النضالية وجرعة زائدة لديه أحياناً في تبني حملات المقاطعة التي كان ولا يزال أحد روّادها. فهو من الناشطين في «الحملة الأكاديمية الفلسطينية للمقاطعة الثقافية والأكاديمية لإسرائيل»، وهو يرى في خياره وسيلة ضغط على دولة محتلة قد يطول الجدل ويتشعب حول جدواها وقدرتها الفعلية على تغيير السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين. لكنه عملياً قام بما تمليه عليه قناعاته سواء بقرار المقاطعة أو باعتماد بعض البراغماتية في «خرقها» بما يصب في مصلحة قضيته. فهو بمشاركة باحثين مناهضين للصهيونية، عمد إلى زيادة «الحلفاء» في معسكر «الأعداء» ظناً انه سيتم الاعتراف به كواحد ممن شرّحوا الاحتلال الإسرائيلي وأثبتوا عنصريته بوسائل علمية بعيداً من الشحنات العاطفية الزائدة وبشهادة شهود من أهلهم. ولعله في هذا الحيز الضيق جداً من المقاربة البراغماتية والمرنة يمكن مقارنة حركة المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل، بالحملة التي نشأت مطلع الستينات من القرن الماضي في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري وأتت ثمارها. فمع الوقت استثنى المقاطعون السود الجامعات والمعاهد التي لا تمارس التمييز ضدهم، وهو موقف يرجح العقلانية على الدوغما الجامدة. ومن الأخطاء الشائعة جداً، تشبيه الحملتين بعضهما ببعض وتقديم نجاح الأولى كدليل على حتمية نجاح الثانية. فالزمن اليوم غير منتصف القرن الماضي، وهذه حقيقة على رغم بداهتها، لا يمكن إنكارها ناهيك عن هوية «المعزول» الفعلي من المقاطعة والمتضرر منها. ففي تلك الحقبة جاءت حركة الأكاديميين في جنوب أفريقيا كحلقة محلية مكملة لسلسلة عالمية ودولية ضغطت طيلة 30 عاماً بمساندة الأممالمتحدة لإلغاء نظام الفصل العنصري. ومن خضع عملياً «للعزل» السياسي والاقتصادي كان النظام وأتباعه ومؤسساته كلها ومن ضمنها الأكاديمية تحديداً عبر أكاديميين آخرين. أما في حالتنا نحن فالوضع مختلف تماماً. بداية ما عاد ممكناً التغاضي عن مفاعيل العولمة وحرية حركة السلع والبشر والمعلومات، وسط عجز حقيقي عن ضبط مصادر التمويل والإنتاج والتصدير في شكل دقيق وعجز أكبر عن إنتاج بدائل استهلاكية... فكيف الحال بالأفكار! ثم إنه قد يكون مفيداً أن يتناول النقاش المقاطعة من باب نفعها أو ضررها للطلاب والأكاديميين الفلسطينيين أنفسهم أكثر من الاكتفاء بإحصاء خسائر الإسرائيليين. ففي الوقت الذي يخوض أكاديميو الجامعة الأميركية نضالهم، ينسون أنهم يملكون رفاهية لا يملكها الفلسطينيون سواء في الأراضي المحتلة أو في مخيمات اللاجئين في لبنان. فهم يعيشون ويعملون داخل إحدى أرقى الجامعات الخاصة وأغلاها أقساطاً فيما هؤلاء لا يملكون بدائل كثيرة. وبهذا المعنى يصبح معزولاً عملياً من المقاطعة الأكاديميون الفلسطينيون طلاباً وأساتذة، ونحن المطالبين لهم بشروط تعليم أفضل. لكن هذا كله لا يجدي نفعاً مع الأساتذة المقاطعين. فهم يعلمون جيداً أنهم في جامعة النخبة التي، وللسخرية، لم يخلفها لهم المعسكر الاشتراكي. ولدرء تهمة «النخبوية» عن أنفسهم بالغوا في «ممانعتهم» حتى وقعوا في الشعبوية. فبدلاً من أن يقدموا طرحاً فكرياً هادئاً يعكس وجهة نظرهم التي قد يختلف معها المرء أو يتفق، رفعوا فزاعة التطبيع في وجه زميل أعزل. الفرق الوحيد أن نقاشاً أو ربما اختلافاً من هذا النوع ممكن مع حنفي. فهو على عكسهم، لم يرجح الايديولوجيا والانتماء السياسي على العمل الأكاديمي، بل جعل الثانية في خدمة الأولى. لهذا يصبح لمقاطعته معنى أعمق.