في حفلة فخمة ضمت إلى جانب الفائزة بجائزة الأدب، الفائزين بجوائز الطب والفيزياء والكيمياء والاقتصاد، تسلمت هيرتا مولر في ستوكهولم أمس الجمعة من الملك السويدي كارل غوستاف جائزة نوبل لسنة 2009 تقديراً لأدبها الذي يمثل «تعبيراً فنياً» لما أبدته الكاتبة من مقاومة للقمع في رومانيا، وإعجاباً لما يحمله من «طاقة لغوية» تشدنا منذ الحرف الأول، مثلما قال أندرس أولسون المتحدث باسم اللجنة السويدية. عندما سأل الصحافيون في ستوكهولم الكاتبة البالغة من العمر ستة وخمسين عاماً عما ستفعله بقيمة الجائزة التي تقارب المليون يورو، رددت هيرتا مولر السؤال بصوت خافت، ثم قالت ضاحكة: «اطمئنوا، لن أشتري يختاً.» بدت الفائزة خجولة في المؤتمر الصحافي، وكأنها تريد أن تختفي بسرعة عن الأنظار، تاركةً الساحة لرواياتها وأشعارها، فهذه الأعمال هي التي استحقت الجائزة وليست هي، مكررةً في ستوكهولم ما قالته في برلين إثر نبأ الإعلان عن فوزها بالجائزة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. أما عندما سألوها عن مفهومها للوطن، فجاءت إجابتها جادة للغاية: «الوطن هو المكان الذي لا يستطيع الإنسان تحمله عندما يعيش فيه، ولا يستطيع نسيانه عندما يبتعد عنه.» ما زالت هيرتا مولر تعيش بذهنها في وطنها السابق الذي لم تتحمل قسوته، فهربت منه عام 1987 إلى برلين حيث استقرت وحصلت على الجنسية الألمانية، وعلى رغم ذلك فإن كل أدبها يتمحور حول رومانيا الشيوعية وحول القمع والقهر والظلم الذي يعانيه المواطنون في نظام شمولي. «لم أختر الموضوع»، تقول مولر معللة، «بل اختارني الموضوع». عندما بدأت الكتابة كانت تعمل مترجمة في أحد المصانع، غير أنها فُصلت لرفضها التعاون مع جهاز الاستخبارات. بعد ذلك استطاعت أن تهرّب مخطوطتها الأولى «منخفضات» إلى ألمانيا حيث تم نشرها عام 1984. وعندما رحلت إلى برلينالغربية واستقرت فيها كتبت روايتها الأولى «الثعلب كان آنذاك هو الصياد» (1992) عن فظائع حقبة تشاوشيسكو، وأعقبتها بروايات تناولت الفترة نفسها، مثل «حيوان القلب» (1994). وفي هذا العام عادت مولر إلى الماضي الذي عاشته في رومانيا بروايتها «أرجوحة النفس» التي تتناول ما واجهته الأقلية الألمانية في رومانيا من ظلم، وما تعرض إليه أفرادها من ترحيل قسري إلى الاتحاد السوفيتي، وهو المصير نفسه الذي تعرض إليه صديقها الكاتب أوسكار باستيور الذي توفي قبل ثلاث سنوات والذي رُحل بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى أوكرانيا حيث قضى خمس سنوات نزيلاً في أحد معسكرات السخرة. إلى هذا الماضي الروماني عادت مولر أيضاً في كلمتها التي ألقتها في مناسبة تسلّمها الجائزة. طرحت مولر في البداية سؤالاً بدا عادياً جداً: «هل معك منديل؟» هذا السؤال كانت أمها توجهه لها دائماً قبل أن تغادر المنزل كل صباح وهي بعد فتاة صغيرة. لم يكن معها منديل. غير أنها كانت في كل صباح تنتظر السؤال بلهفة، لأنه كان البرهان على أن الأم تشملها بعنايتها وعطفها. كان السؤال يعني «حناناً غير مباشر». المنديل كاستعارة بلاغية هو الخيط الأحمر في كلمة هيرتا مولر. إنه يرمز أحياناً إلى حب الأم وحدبها، وأحياناً إلى المشاعر الإنسانية حيثما لا يكاد يتوقعها أحد، مثلاً في معسكرات السخرة الستالينية. «أود أن أقول جملة لكل الذين سُلبوا ويُسلبون كرامتهم في ظل الحكم الديكتاتوري»، هكذا اختتمت مولر كلمتها، «هل من الممكن أن يكون السؤال عن المنديل لا يعني المنديلَ أبداً – بل يعني الوحدة القاسية التي يكابدها البشر؟» لسنوات طويلة لم تستطع هيرتا مولر أن تتحدث عما مرت به من خبرات وخوف مميت في رومانيا أثناء حقبة تشاوشيسكو، وهي تبدأ روايتها «حيوان القلب» وتنهيها بهذه العبارة: «إذا صمتنا نَفَرَ الآخرون منا، وإذا تكلمنا ضحكوا علينا.» طيلة الرواية يشعر القارئ بالصمت ثقيل الوطأة الذي يستبدل الكلام والمصارحة والبوح. أما عندما يتكلم أبطال الرواية فإنهم لا يثيرون الضحك أبداً. كانت الكتابة هي مجال البوح الوحيد لهيرتا مولر وطوق النجاة الأخير. وبأعمالها استطاعت مولر أن تعبر باقتدار عن كرامة الإنسان المسلوبة في عصور الطغيان. لم تقع في هوة اليأس، بل كان «الخوف من الموت» يثير لديها دائماً «الظمأ إلى الكلمات».