ينشط الألمان المهتمون بموضوع الأجانب في بلدهم، للتواصل معهم وإحداث نوع من التفاعل الإيجابي بين الطرفين. سوزي من حزب الخضر، اقترحت أن تحيي في مكتب الحزب في سالفيلد، ليلة غنائية نسائية، اجتمعت فيها نساء من روسيا، تركيا، أفغانستان، الجزائر وسورية، إضافة الى الألمانيات، معززة فكرة أن الغناء ليس شرطه الأساسي الصوت الجميل، فالنساء اللواتي غنين لم يكنّ من ذوات الصوت الجميل، وغالبيتهن لديهن تجارب سلبية مع الغناء تعود إلى فترة المراهقة أو الطفولة، وهن لم يتوقفن عن الحديث عن بشاعة أصواتهن. لكن الغناء تواصل، ولعلّه تواصل نسائي خاص، إذ يصعب تطبيق هذه التجربة في عالم الرجال، الذين يميلون الى إحياء فعاليات حركية، كلعب كرة القدم. لم تفهم الواحدة ما غنّته الأخرى مباشرة، فكان على كل سيدة أن تعيد شرح كلمات الأغنية التي غنتها، ومع هذا أثارت كل اغنية شعوراً مختلفاً في الحاضرات، وفهماً من نوع خاص، كما حركت الأغاني ذكريات الماضي الراسب لدى جميع السيدات. أنوشكا الروسية المستقرة منذ زمن في ألمانيا، غنت أغنية روسية قديمة، تعني أن الفتاة الصغيرة اشتاقت الى وطنها. وملّت الانتظار وهي تجلس على الشباك تنتظر أن يأتي أحدهم ويعيدها الى روسيا. أنوشكا الأربعينية بكت كثيراً، وتقول أنه كان عليها في روسيا أن تحفظ هذه الأغنية غيباً. لم يكن الأمر محبباً لها، بل كان إجبارياً، ومنذ ذلك الزمن لم تعد لتغنيها حتى اللحظة. ورداً على سؤال: هل تغني أغاني روسية لأطفالك؟ وهل تعلّموا أن يغنوا بالروسية؟ تجيب بالنفي، وتضيف: «أغانينا الروسية تحمل الكثير من الألم، على عكس أغاني الأطفال الألمانية، لذا أفضّل ألا أغنيها لهم». أما أركان من تركيا، فغنت أغنية العروس، الأغنية التي ينشدونها في لواء الاسكندرون للعروس ليلة الحناء. مالت أركان برأسها وعادت بالسنوات بعيداً، عندما كانت هي عروساً. تحدثنا الأغنية عن شوق العروس التي خرجت من منزل أهلها، شوقها للأخت والأب والأم، فتقول: عندما يصبح لديك طريق يا أختي تعالي إلي، عندما يصبح لديك مال كاف للسفر يا أبي تعالَ إلي، عندما تنهين أعمالك يا أمي في الأرض تعالي إلي، أنتظركم في كل يوم وأحمل سلامي الى الطير. تشرح أركان طقوس العرس في بلادها وضرورة فصل الرجال عن النساء. وتضيف: «الأمور الآن تغيرت كثيراً، لكن تبقى هذه الأغنية إحدى أهم الأغاني التي ما زالت تنشد هناك. أركان أخذتنا بصوتها الحزين الى تلك المنطقة من تركيا التي لم تزرها واحدة من الحاضرات. تقول: عندما نغني هذه الأغنية نبكي في كل مرة، نحن نبكي كثيراً عند وداع العروس. البكاء على العروس وفصل الرجال عن النساء والحناء، كلها أمور جديدة كل الجدة على الألمان. كما غنّت نساء من الجزائر «طلع البدر»، ما أثار الدهشة عند بعضهن وسألن: وهل تغنين الأغاني للنبي محمد؟ هل هذا موروث لديكم؟ نعم، إنه موروث وقديم، إذ خرجت النساء ليستقبلن الرسول بالطبول عندما عاد الى المدينة، إنهم يغنون أغاني الحب للرسول، ماذا عن التحريم وما نسمعه؟ تتساءل إحداهن. أما الفتاة الأفغانية فتقول: «لم أغن أبداً قبل الآن، لكني سأجرب»، كانت أغنيتها عن ذلك الرجل الذي عشق أفغانية، لم يكن في وسعها القدوم إليه، لقد كانت مع رجل آخر. غنتها بكثير من الخجل والتردد، حاولت إنهاءها بسرعة، ومع هذا قدمت من خلالها بعداً جديداً عن أفغانستان، بلد الحرب والقنابل، فهناك أيضاً رجال يغنون الحب ويتعذبون من أجله. الجدة الألمانية المسنّة التي أخرجتها إحداهن من عزلتها المنزلية ودعتها الى حضور الأمسية، كشفت للحاضرات أنها تعشق الغناء والعزف، وأمضت سنين من شبابها وهي تغني على المسارح. الجدة أخرجت آلتها الموسيقية الصغيرة، وبدأت العزف ترافقها أصوات النساء الألمانيات في الغناء، متجاوزة سنوات مضت لم تعد فيها تعزف أو تمرح.