إشكالية دور الإعلام العربي في الخلافات العربية – العربية، تقود أولاً إلى السؤال عن: دوره في تذليلها أم تأجيجها بتعزيز اصطفافات (الممارسات الرسمية والحزبية). ومعظم الإعلام العربي، رسمي أو شبه رسمي. أما الإعلام المقروء «المستقل» فحالات لا تزال في بداياتها، على رغم تكاثرها كالفطر. فالمقياس هنا هو النوع وليس العدد. إعلامنا الطاغي يعكس صوت الحكومات، لذلك هو مرآة للخلافات العربية، صدى لها، يرددها، يضج حين تطغى وتتفاقم، ويهدأ حين تنحسر... ولكن في هدنة. إعلام آخر «معاصر»، هو إعلام الإرهاب والفكر الاستئصالي الذي يلغي وجود الآخر، زاعماً احتكار الحقيقة المطلقة، يوزعها وما علينا سوى «ابتلاعها». هل يقدم الإعلام العربي حلولاً للخلافات، أو يساهم في تهدئتها؟ الجواب يعيدنا إلى المربع الأول. نحن في حقبة الانهيارات العربية، وهي تنعكس في الإعلام لغةً أبعد ما تكون عن مفهوم الرسالة الذي كان شهادة منشأ للسلطة الرابعة. بعض النماذج الصارخة يتمثل في إتاحة حيز واسع لتبادل الشتائم باسم السجال. ينطبق الأمر على الصحافة الثقافية، كما على الصحافة السياسية والنقدية. هل هذا النوع من الإعلام يمكن أن يكون ذا رسالة؟ أو يمكن أن يقدم النموذج الموضوعي – المتوازن الذي يبني عليه جيل شبابٍ سيتسلم المنابر الإعلامية من الجيل «التقليدي»؟ نحن في حقبة انحطاط هي الوجه الآخر للانهيارات العربية. ينعكس ذلك في أزمة تراجع الصدقية الإعلامية، وهي معيار حاسم في تقويم موضوعية أي صحيفة أو قناة تلفزيونية أو محطة إذاعية. فالغالب اليوم أقرب ما يكون إلى التكهنات والأمنيات والإشاعات، والترويج، لا إلى الحقائق والوقائع كما هي. والمعيار هنا هو مصلحة الجهة المموّلة ورغباتها، أو رؤيتها. في الصحافة الإلكترونية، كما في الورقية، يتعمم مثلاً استخدام كلمة «المصدر الرفيع المستوى»، بلا أي ضابط لمعيار الموضوعية. المصدر قد يكون حكومياً يريد تشويه صورة المعارضة لدى الرأي العام، والعكس صحيح أيضاً. فيما الحقيقة هي الضحية، ومعها علاقة التفاعل السليم بين الحكومات العربية والمجتمعات. وبمقدار ما للإنترنت من فوائد كثيرة في تفاعل الشعوب والمجتمعات، عبر ثورة المعرفة، بمقدار ما للشبكة العنكبوتية من مساوئ خطرة الدلالات والتداعيات: 1- شبكات التطرف والإرهاب تستخدمها سلاحاً فاعلاً في الترويج لحربها على المجتمعات باسم الحرب على الحكومات وأميركا. 2- منظمات وتنظيمات «أصولية» من نوع آخر و «تبشيرية» تستغل الإنترنت لاختراق الوعي العربي وتشويه ما بقي من تماسكه تحت وطأة الحروب والأزمات الاجتماعية والاقتصادية، وكبت الحريات. في الحالين، السائد هو تغييب الحقائق باسم الأيديولوجيا و «العقائد»، وإطلاق مفردات حربٍ أبدية على قواعد السياسة والاجتماع... بحجة الانقلاب على كل ما هو تقليدي، سُمي لفترات «رجعياً» أو «متخلفاً». وفي الحالين يطغى مع الانحطاط، التطرف يميناً ويساراً، شمالاً وجنوباً. تتغلغل «الفتاوى» عبر الإعلام، ولكن، مَن يسأل عمّن منح فلاناً أو غيره حق إصدار «الفتوى». يطغى تقليد كل ما هو معاكس، لمجرد أنه النقيض، تهيمن اللغة الطائفية والمذهبية والشوفينية على كثير من وسائل الإعلام، لتردد أصداء ما تضج به مجتمعاتنا اليوم. وكي تعود السلطة الرابعة رابعة، نفترض أولاً أن لا بد لنقابات الصحافة العربية واتحاداتها من وضع خريطة طريق لإعادة اللغة المهنية الموضوعية إلى الإعلام العربي، كي يساعد مجتمعاتنا على إنقاذ نفسها من فكي التطرف وحروب الشرذمة والتفتيت والتجهيل. لا بد من ميثاق شرف إعلامي ينبذ لغة الشتائم والتخوين وتأجيج الصراعات السياسية والخلافات المذهبية، ويحتكم إلى لغة العقل وميزان الصدقية في نشر المعلومات... ويوقف تشويه الوعي العربي والحقائق باسم تبادل الأفكار. هذه ليست دعوة إلى الحَجْر على حرية المعرفة، بل إلى الحذر في تعميم المعلومات «على ذمة الراوي». وإذا كان الإعلام المستقل مئة في المئة نادراً ومجرد طموح، فأضعف الإيمان الامتناع عن تطويع الحقائق باسم الأيديولوجيا والعقائد، وحروب مع أعداء نخوضها بالانتحار الجماعي... فكراً ووعياً وإعلاماً وثقافة». إن فوضى الإعلام لا تصنع فكراً ولا حرية، بل هي أشبه بعمى الألوان. * مدير مكتب «الحياة» في بيروت، والنص من مداخلة ألقاها في المؤتمر السابع لمنتدى الإصلاح العربي – مكتبة الإسكندرية 2 آذار (مارس).