شاطئ وآثار رومانيّة، وجبنة موزاريلا لن تنساها أبداً: هكذا هو إقليم كامبانيا الإيطالي، رغم أنه يُعتبَر من المناطق الأفقر وذات الكثافة السكّانيّة الأكبر في إيطاليا. وعاصمة الإقليم هي نابولي – المرادفة للمافيا. وبالتحديد ال «كامورا». ما القواسم المشتركة بين بيروت ونابولي؟ قد يجمع كلّ ما سبق بين المدينتين. بيد أنّ قاسماً مشتركاً آخر قد يكون أقلّ وضوحاً، ويتمثّل بأزمة نفايات راسخة، ناهيك عن أنّ نابولي توفّر لبيروت تصوراً عمّا ستكون عليه الحياة بعد عقود من الإدارة العشوائيّة للنفايات، والفساد، وانتهاك الحق العام. المشهد ليس جميلاً أبداً. وفي مدينة تغيب فيها المساءلة السياسية وترتبط فيها السياسة بالمافيا، تُعتَبَر إدارة النفايات من المكاسب السهلة التي يمكن استغلالها. بعد نهاية الحرب الأهليّة اللبنانيّة في عام 1989، كان الحزب الليبرالي الإيطالي يعقد اجتماعات مع «كامورا» لمناقشة تعويضات إدارة النفايات. والواقع أنّ صناعيّي شمال إيطاليا كانوا يسعون للتخلّص من النفايات بما فيها النفايات الخطرة، علماً أنّ ال «كامورا» كانت الوحيدة القادرة على توفير هذه الخدمة بأسعار تقلّ عن سعر السوق. لقد احترفت ال «كامورا» التخلّص من النفايات في مطامر غير مشروعة، عبر تعاقدها مع شركات النقل الخاصّة بها. فتزايد الطلب على التخلّص غير المشروع من النفايات، وعلى الخدمات ذات الصلة التي توفّرها ال «كامورا». وبالتالي، اتّسعت هذه السوق وازدادت تعقيداً، وراحت النفايات تعبر مواقع التخزين الخاضعة لرقابة ال «كامورا»، قبل أن يتمّ التخلّص منها برّاً أو بحراً، في حين كان مبدأ «المعالجة» مستبعَداً تماماً. في عام 1993، ظهرت الخطة الإقليمية الأولى لإدارة النفايات، في محاولة للحد من استخدام المطامر في كامبانيا، ضمن جهود كان هدفها إيقاف ال «كامورا» عند حدّها. وبحلول عام 1994، بلغت المطامر قدرتها على الاستيعاب، وتمّ إعلان حالة طوارئ. دفعت حالة الطوارئ لمعالجة أزمة النفايات بالحكومة الإيطاليّة إلى تعيين «مفوّض استثنائي»، يملك «سلطات استثنائية» تخوّله التعاطي مع الأزمة القائمة. وبالمبدأ، تمثّل دور المفوّض بالحد من نفوذ «كامورا» في مجال جمع النفايات، ونقلها والتخلّص منها. بيد أنّ الممارسة بيّنت أنّ «السلطات الاستثنائية» التي تمتّع بها المفوّض شملت إذناً بمنح العقود، من دون منافسة، تحت غطاء حالة الطوارئ. ما كان أحد ليوقف حركة المافيا المدعومة سياسيّاً، ولم يبقَ أيّ حلّ غير التواطؤ معها. وكانت معالجة النفايات غير فعالة، وبقيت مواقع رمي النفايات وطمرها تتكاثر باستمرار، كما أنّه أعيد فتح بعض المطامر القديمة، فتسبّبت هذه المأساة بسلسلة من الاحتجاجات المدنيّة. دعت الظروف القاهرة إلى تطبيق إجراءات حاسمة: ففي عام 1998، رعى وزير الشؤون الداخلية في إيطاليا، نابوليتانو، خطّة تقضي بتحديث قطاع إدارة النفايات في المنطقة. وطُلب من المفوّض، راستريلي، صوغ عرض مناقصة لخطّة إدارة نفايات المدينة على امتداد عشر سنوات. وارتكزت خطّة إدارة النفايات هذه على بناء مرافق لمعالجة النفايات، ومعامل تحويل النفايات إلى طاقة ومحارق، في غياب أيّ توجّه نحو التدوير والحدّ من إنتاج النفايات. وفي التفاصيل، نصّ عرض المناقصة على بناء سبعة معامل إنتاج وقود مشتق من النفايات (والوقود المشتق من النفايات هو عبارة عن كريات إيكولوجيّة من النفايات المضغوطة التي تحتوي على وحدات حرارية عالية، يتمّ حرقها لإنتاج الطاقة)، إلى جانب محرقتين. وكانت الخطّة تقضي بإنتاج الكريات الإيكولوجيّة المذكورة ووضعها موقتاً في مواقع تخزين إلى أن يتمّ بناء المحرقتين، ويتمّ بعد ذلك حرق الكريات هذه بهدف إنتاج الطاقة. صلاحيات المفوض العام في أعقاب مناقصة غير شفافة، فاز كونسورسيوم من الشركات النافذة اسمه FiBE بعقد إدارة نفايات المدن لمجمل إقليم كامبانيا في عام 2000. وما فعله المفوّض الخاص في شكل أساسيّ، من خلال منح هذا العقد، هو خصخصة معالجة النفايات في المنطقة، مع استبعاد دور المجتمعات المحليّة، والبلديات، والمجتمع المدني، ووضع مبالغ ضخمة من المال العام في يد المفوض من دون إشراف أو رقابة، بحجة «حالة الطوارئ». وفي لبنان، لدينا أيضاً مفوّضنا الخاص وهو «مجلس الإنماء والإعمار» الذي يملك تفويضاً من مجلس الوزراء وفي غياب «حالة طوارئ»، وليس في حاجة إلى إطلاق أيّ مناقصة منافسة. وقد عمد مجلس الإنماء والإعمار إلى خصخصة قطاع التخلّص من النفايات لشركة «سوكلين» منذ عام 1994، مع تحويل ما وصل إلى نحو 150 مليون دولار أميركي سنوياً، من أموال البلديات (سعر الطن وصل إلى 147 دولاراً، لجمع ونقل و «معالجة» قرابة 3000 طن في محافظتي بيروت وجبل لبنان ما عدا جبيل يومياً). ومع تبلور أحداث أزمة نابولي، تبدو مواطن الشبه بينها وبين ما يحصل في لبنان ملفتة حقّاً. في إيطاليا أعطيت شركة FiBE سلطة كاملة لتختار مواقع بناء مرافقها، من دون أن يكون للهيئات المحلّية أي دور في ذلك. وطبعاً، وبالنظر إلى نفوذ ال «كامورا» وشبكاتها في إقليم كامبانيا الغارق في الفقر المدقع، تقرّر إنشاء جميع المطامر ومواقع تخزين الكريات الإيكولوجيّة في المناطق الخاضعة لسيطرة ال «كامورا». أمّا النتيجة، فتمثّلت بكارثة للأجيال المقبلة، مع تهريب النفايات السامّة من أرجاء أخرى من إيطاليا وأوروبا، بإدارة ال «كامورا» وتعاون شركات إقليمية ومؤسسات مهمة فاسدة. علماً أنّ سوق النفايات الشرعية التي تسلّلت إليها ال «كامورا» كانت سيّئة الإدارة، في ظلّ إجراءات الطوارئ التي شجعت انعدام الشفافيّة ووفّرت غطاءً قانونيّاً وسياسيّاً للفساد. أضف إلى ذلك أنّ الكريات الإيكولوجيّة المعدّة في مواقع إنتاج الوقود المشتق من النفايات كانت من نوعيّة سيّئة جدّاً، واشتملت أحياناً على مواد كاملة كالإطارات، ما جعل حرقها مستحيلاً وغير جائز في المحرقتين اللتين بقي بناؤهما معرقلاً. منذ مطلع الألفيّة الثانية، ولّد سوء الإدارة حاجة ماسّة إلى إيجاد مساحات تخزين ومطامر جديدة، بالنظر إلى أنّ عدداً كبيراً من مواقع إنتاج الوقود المشتق من النفايات بلغ قدرته القصوى على الاستيعاب، وبالتالي، تباطأت عمليّة جمع النفايات. وباتت صور المنطقة الغارقة بالنفايات تشيع في كلّ مكان، وتمّ استحداث مواقع تخزين جديدة للكريات الإيكولوجيّة السامة جداً. وكما هو متوقَّع في دولة متقدّمة، لأنّ نابولي في النهاية هي جزء من إيطاليا، انطلق عدد كبير من تحقيقات الشرطة والدعاوى القانونية، بهدف تفكيك خيوط الفساد المعقّدة في هذه المنطقة الغارقة في النفايات. ودرس المحقّقون نوعية الكريات الإيكولوجيّة المنتشرة في أرجاء المنطقة، في حين ركّز القضاة على المزاعم التي تربط الشركات بال «كامورا»، بعد تمكّنها من تقديم عروض أرخص ثمناً من منافسيها، إذ نجحت في خفض الكلفة لاستعمالها مكبات ومطامر غير شرعية. وفي ظلّ مساعٍ لتسليط الضوء على حدّة الفساد، أعلن مكتب مكافحة المافيا أنّه ما بين عامي 2001 و2003، كانت ثلاث شركات فقط، من أصل 21 شركة مسؤولة عن جمع النفايات في مقاطعة نابولي، «نظيفة» من أيّ روابط مع المافيا. بحلول عام 2006، أقرّ أحد القوانين بمسؤوليّة كونسورسيوم FiBE في أزمة إدارة النفايات، وتمّت محاكمة مسؤولين من القطاع العام وأصحاب مشاريع، وصل عددهم إلى 30. وأشارت تقديرات وسائل الإعلام إلى اختفاء نحو 3 مليارات دولار في متاهات الجريمة والفساد، في حين أكّدت مصادر أنّ إيطاليا لديها سجلّ من «اختفاء» النفايات، مع اضمحلال نحو 31 مليون طنّ من النفايات الخطرة من دون معالجة. كانت التحقيقات والمصادرات من الجهود الضروريّة للحدّ من الفساد ومن انعدام كفاءة كونسورسيوم FiBE والمفوّض «غير الكفوء». بيد أنّ التحقيقات ومصادرات الممتلكات لم تكن قادرة على إخفاء مئات الأطنان من الكريات الإيكولوجيّة السامّة المتفشّية في الشوارع، إذ بدأت انعكاسات أزمة النفايات على الصحّة تظهر للعيان. وفي عام 2007، وثّقت منظّمة الصحّة العالميّة زيادة حادّة في إصابات السرطان، وزيادة بنسبة 80 في المئة لعدد تشوّهات الأجنّة لدى الأشخاص المقيمين على مقربة من مكبّات النفايات في المنطقة، مقارنة بالمعدّل الوطني. بحلول عام 2008، تصدّرت أزمة نفايات كامبانيا أخيراً عناوين الصحف الدوليّة، بعد أن بقيت تتفاقم لأكثر من عقد من الزمن، وتصدّرت صور 200,000 طنّ من النفايات في الشوارع المكتظّة وسائل الإعلام، انطلاقاً من أميركا اللاتينيّة مروراً بآسيا. وفي 14 كانون الثاني (يناير) 2008، وصفت صحيفة «دير شبيغل» رائحة الجشع النتنة لدى سياسيّي إيطاليا بعبارة: «في نابولي، النفايات هي ذهب خالص». وفي 22 آذار (مارس) 2008، ورد في عناوين الصفحة الأولى لصحيفة «ذي إندبندنت»: «أزمة الفضلات السامّة، والمافيا وفضيحة الموزاريلا الأوروبية»، في إحالة إلى التخلّص غير المشروع من النفايات السامّة التي لوّثت الألبان والأجبان في أرجاء كامبانيا بمستويات عالية من مادّة الديوكسين الكيميائية الخطرة. ردّاً على تزايد النفايات وتأثيراتها الخارجيّة، اكتسب المجتمع المدنيّ نفوذاً في كامبانيا، وقد كان مؤلفاً من عدد من التحرّكات المعنيّة بالنفايات، وقدّم اقتراحات بديلة لإدارة النفايات وزيادة الوعي لدى العموم. ومع بلوغ المطامر الجديدة، وتلك التي أعيد فتحها، قدرتها القصوى على الاستيعاب، خرج الناس، ومعهم المجتمع المدني إلى الشارع، واعترضوا بشدّة على إعادة فتح المطامر التي بقيت مقفلة طوال عقود، وعبّروا عن رفضهم القاطع لافتتاح مطامر جديدة، وأفصحوا بصوت عالٍ عن عدم وثوقهم بالطريقة التي تعالج فيها السلطات أزمة النفايات. معركة بيانورا كانت معركة بيانورا بالتحديد رمزاً لمقاومة سكّان نابولي. وكان مطمر بيساني في بيانورا، في مقاطعة نابولي، أُقفِل في عام 1996، بعد أن رميت فيه النفايات طوال خمسين عاماً. وحاولت السلطات إعادة فتحه في كانون الثاني 2008، بعد أن بلغت المطامر الأخرى قدرتها القصوى على الاستيعاب. بيد أنّ السكّان المحلّيين جنّدوا الناشطين والقضاة على حدّ سواء، رافضين إعادة فتحه. وبفضل التحقيقات في مشاكل الصحّة وتلوّث المياه الجوفيّة، بقي المطمر مقفلاً، وتواصلت التحقيقات في انعكاساته على تطوّر الأمراض. ولم يُعد افتتاحه يوماً، وأعلن السكّان انتصارهم على السلطات. تعتري الانتصارات الصغيرة أهمّية. وقد آن الأوان ليتّضح أنّ «معارك الناعمة، وسرار، وراس العين، وبرج حمّود» في لبنان ليست محصورة بصحّة بضعة آلاف من المواطنين الغارقين بمعظمهم في الفقر في بعض المناطق المحدّدة، بل هي معركة وطنيّة ضدّ الفساد، وسوء الإدارة، وانعدام الكفاءة على صعيد التخلّص من النفايات، علماً أنّ جلّ ما تفعله الدولة هو إساءة معاملة هؤلاء الآلاف، وابتزازهم بهدف إعادة فتح المطامر في فناء بيوتهم، باعتماد حجج واهية تفيد بأنّ حلّ الأزمة مرهون بهم. في سياق تطوّرات مثيرة، وبحلول أيار (مايو) 1998، أعيد اختيار سيلفيو برلوسكوني ليتبوّأ السلطة في إيطاليا، فحلّ مكان رومانو برودي اليساري. وبعد أن أصبحت أزمة نفايات كامبانيا من أهمّ الأولويات الوطنيّة، كان لخطط برلوسكوني، القاضية بإيجاد حلّ لأزمة النفايات، مكان أساسيّ في الوعود التي أطلقها. وفي ظرف أشهر قليلة، أصبحت شوارع كامبانيا نظيفة من النفايات. قد يُخدع المرء ويعتقد أنّه تمّ اعتماد مقاربة مستدامة لمعالجة أزمة النفايات المتجذّرة. ولكن كم كان أسف سكّان كامبانيا كبيراً، عندما اعتمدت الحكومة الجديدة المقاربة عينها، ولكن في هذه المرّة مع نفحة متسلّطة. وقد أصدرت الحكومة المرسوم الرقم 90 الذي نصّ على بناء 9 مكبّات و4 محارق، معتبرة الأمر «من المصالح الوطنيّة الاستراتيجيّة» التي تحظى بحماية الجيش، في حين أنّ أيّ احتجاج بات يدخل في عداد الجرائم الجنائيّة. إلاّ أنّ الفضيحة الكبرى كانت في كون المرسوم سلّط الضوء مجدّداً على الطابع المركزي لصنع القرار وحصره بشخص واحد، هو رئيس جهاز الدفاع المدني، غويدو بيرتولاسو، وقد شاء القدر أن يكون قد خضع للمحاكمة في قضيّة FiBE، علماً أنّ بيرتولاسو لم يُطلق أيّ استدراج عروض لبناء المعامل، بل عمد شخصيّاً إلى اختيار الشركة التي ستقوم بذلك، مفضّلاً بالتالي مصالح مجموعات الضغط ذاتها التي أنشأت حالة طوارئ النفايات في الأساس، ليتبين أنّه لم يتمّ اتّخاذ أيّ إجراءات فعليّة بموجب هذا المرسوم للحدّ من الفساد والجريمة في مجال إدارة النفايات. كان برلوسكوني مصرّاً على إبقاء الأمور على حالها. وفي آذار 2009، عاد لافتتاح المحرقة الجديدة في أسيرا التي استمر بناؤها عشر سنوات، وكان يتوجّب استعمالها لمعالجة معظم النفايات السامّة والخطرة المتروكة على حالها في مواقع التخزين. وخلال حفل الإطلاق في أسيرا، أعلن برلوسكوني انتهاء حالة طوارئ النفايات في نابولي. كان حلّ أزمة النفايات المتجذّرة بعيد المنال، والدليل على ذلك هو أنّ الشوارع راحت تفيض بالنفايات مع كلّ افتتاح أو إعادة افتتاح مطمر جديد، ما كان يؤخّر بالتالي جمع النفايات. ثمّة مطمر افتتح في عام 2009 يستحقّ الوصف، ففي ليل 14 حزيران (يونيو)، أعطت الحكومة الإيطاليّة أوامر ببدء استعمال مطمر ترزينيو، في حديقة فيزوف الوطنيّة، من دون أن يحصل السكّان على أيّ إشعار مسبق بأنّه سيتمّ استعمال المطمر المذكور. وللحد من ردّ الفعل الغاضب للسكّان، وعدت الحكومة بالتعويض للبلدة عبر دفع مبلغ 20 مليون يورو، لم يصلها يوماً. وبالنظر إلى هذه الحادثة، يبدو أنّ السلطات في لبنان راقبت عن كثب أزمة نابولي، وتتوق لاعتماد المقاربة عينها المنبثقة من التعاطي الفوقي مع المجتمعات المحلية، ولكن بدلاً من أن تعرض على عكّار والبقاع، المنطقتين اللتين تقرر إنشاء مطامر فيهما، مبلغ 20 مليون يورو، ستعطى البلديات مبلغ 100 مليون دولار على امتداد ثلاث سنوات، لتستقبل نفايات البلاد كلّها، على حساب تحملها مضارها. بعد عقود من المعاناة، سيظهر بصيص أمل بالنسبة إلى سكّان كامبانيا. ففي أعقاب مرحلة تعيين مفوّض يعمل في ظلّ حالة الطوارئ، استعادت حكومة كامبانيا سلطتها على ملف إدارة النفايات، وكانت حريصة على اعتماد خطّة مستدامة لإدارتها. وشكّلت الاستثمارات في بنى تحتيّة منفصلة لجمع النفايات، عوامل مهمّة ساهمت في التحسّن المسجَّل في السنوات القليلة الماضية. ففي عام 2012، تمّت الموافقة على خطّة جديدة لإدارة النفايات، هي عبارة عن خطّة إقليميّة شديدة الالتزام باستراتيجيّة تقوم على تخفيف النفايات والفرز والتدوير، وهي من المطالب التي سعى سكّان كامبانيا والمجتمع المدني إلى تحقيقها طوال عقود. نتائج الفرز والتدوير وفي شكل خاص، كان لانتخاب الوسطي لويجي دي ماجيستريس رئيساً لبلدية نابولي في 31 أيار 2011، تأثير ملفت في إدارة نفايات المنطقة. ذلك أنّ ماجيستريس كان مدّعياً عاماً سابقاً، وترشّح في الانتخابات سعياً منه لتطبيق القانون والنظام، ومحاربة فساد المافيات. وهو اعتمد منذ ذلك الحين مقاربة انطلقت من المجتمع نحو القمّة، ما ضمن للمواطنين والمجتمع المدني على حدّ سواء مستويات أعلى من المشاركة الديموقراطيّة في إدارة المدينة. وقد حقّق فرز النفايات وتدويرها نجاحاً في كلّ مناطق المدينة التي نُفّذ فيها نموذج «الجمع من أبواب البيوت». كما تمكّن دي ماجيستريس أيضاً من ممارسة الضغوط لتصدير جزء من نفايات المدينة إلى خارج إيطاليا، إلى جانب نقل النفايات إلى مرافق معالجة خارج المنطقة، بعد تخطيه عراقيل عدّة سبّبها برلوسكوني النافذ القوي، بالتعاون مع أعضاء رابطة الشمال في الحكومة الإيطاليّة. أمّا العائق الآخر الذي واجهه دي ماجيستريس، فهو الهيمنة الظاهرة للمافيا المنظّمة على عمليّات إزالة النفايات ومعالجتها في كامبانيا. ولم تكن محاربة المافيا مهمّة سهلة. ففي كلّ مرّة بدا فيها ماجيستريس مسيطراً على نظام جمع النفايات، كان يظهر عائق جديد، بدءاً بشخص يحضّ العموم على حرق النفايات أو رميها في وسط الشارع، ومروراً بإقدام الشركات المتعاقدة المرتبطة بال «كامورا» على ترك شاحناتها متوقّفة في المرائب. لا تزال أزمة النفايات في كامبانيا حاضرة كواقع، ولم تصبح بعد من التاريخ. والدليل على ذلك أنّه في تمّوز (يوليو) من السنة الحالية 2015، أصدرت محكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي حكماً ضدّ إيطاليا للمرّة الثانية، بسبب انتهاكها قانون النفايات الأوروبي في منطقة كامبانيا. وقد صدر أمر بحقّ إيطاليا، يحضّها على تسديد مبلغ مقطوع بقيمة 20 مليون يورو كغرامة، وعقوبة بقيمة 120,000 يورو في اليوم، إلى أن تلتزم البلاد تماماً بالقرار الأوّل الاصادر في هذا الشأن عن المحكمة المذكورة التي استلمت القضيّة في عام 2010. إلى ذلك، لا بدّ من التذكير بأنّ ستّة ملايين طنّ من النفايات المتراكمة التي تمّ إهمالها وتخزينها كحلّ مرحلي، لا تزال في حاجة إلى المعالجة. وتشير تقديرات اللجنة إلى أنّ الأمر قد يستغرق 15 عاماً، مع أنّ أمراً بات مؤّكداً هو أنّ خطّة كامبانيا المستدامة الراهنة لإدارة النفايات التي تطبّقها البلديّات هي آخر فسحة أمل بإزالة الضرر الممتد على أجيال عدّة. شعور من الارتياح ينتابك عندما تكتشف أن أزمة نفاياتنا في لبنان هي نقطة في بحر أزمة كمبانيا، ذلك أن 60 في المئة من نفاياتنا هي نفايات عضوية، ومن السهل التخلص منها، ونحن لا نعاني (بعد) من مئات الآف الأطنان من النفايات السامة والخطيرة المرمية عشوائياً تحت جسورنا. لكن قصة كمبانيا هي بمثابة ناقوس الخطر للسلطات اللبنانية والمواطنين أجمع. فعدم إدراكنا واعترافنا بالخطر قد يوصلنا إلى مصير شبيه بمصير كمبانيا. فإنشاء المطامر الرديئة المكللة بالمكبات من حولها، وردم البحر، والتوجه نحو إنشاء المحارق، والتعاقد مع الشركات ذاتها بغية توخي أرباح هائلة، وتفضيل العلاقات المافيوية على المصلحة العامة (كما توحي به الخطة المطروحة الآن)، هو الذي يجعلنا نخطو ببطء باتجاه قدر شبيه بقدر كمبانيا. لافاجيت في مناطق الفقراء