لم ينقشعْ بعد غبار المأساة والألم في المدينة اليمنية التاريخية التي عرفت بالسلام والعلم والثقافة والأدب، والتي ذاع صيتها بين الأمم باسم «الحالمة تعز»، والتي تم ترسيمها عاصمة الثقافة اليمنية. فمنذ أكثر من خمسة أشهر وهذه المدينة المعروفة بكثافة سكانها، الذين يشكلون 12.2 في المئة من إجمالي سكان اليمن، تصارع الموت والدمار الممنهج من ميليشيات الحوثي والرئيس السابق علي عبدالله صالح الانقلابية. وباتت تعز منذ اجتياح الميليشيات لها لا تعرف سوى القصف والقتل والدمار اليومي، وتفشي الأمراض التي تفتك بساكنيها. في آب (أغسطس) الماضي، أعلنت الحكومة اليمنية تعز، الواقعة جنوب غرب العاصمة صنعاء، «محافظة منكوبة»، ودعت مجلس الأمن الدولي إلى «التدخل لوقف مجازر الحوثيين، وإنقاذ المدنيين من حرب الإبادة التي يتعرضون لها بشكل مستمر». وبعد أن قرر سكانها التصدي للحوثيين «بقلوب تملأها العزيمة والإصرار، فالموت في وقته أهم من ألف حياة في غير وقتها»، كما يردد شبان المقاومة الشعبية. بيد أن المجتمع الدولي والمنظمات الدولية والحكومة اليمنية تجاهلت كل ذلك، وسط صراخ ونداءات واستغاثات جمة من معظم مثقفيها وكتابها وصحافييها: «من لم يمت بالكاتيوشا مات بحمى الضنك». وتقاسي تعز الأمرين بفعل الحرب وتبعاتها، المتلخصة في تعسف الأوضاع الإنسانية والمعيشية والاقتصادية والصحية الصعبة داخل المدينة وخارجها، بارتفاع أسعار المواد الغذائية التي ارتفعت إلى 50 في المئة، وانعدام المشتقات النفطية والغاز المنزلي وشح المياه، بسبب الحصار الذي تفرضه الميليشيات. ويقابل ذلك، تفشي «حمى الضنك»، الذي وصل عدد المصابين به إلى أكثر من 10 آلاف شخص خلال الأشهر الماضية، وانتشاره على نطاق واسع داخل المدينة والأرياف، إذ أدى إلى وفاة أكثر من 69 شخصاً، في ظل الظروف القاسية وافتقار أدنى معايير الرعاية الصحية في المستشفيات ذات الأبواب والنوافذ المدمرة، التي تكاد تخلو من أبسط مقومات الحياة. ووفقاً لناشطين في تعز، فإن صعوبة الحصول على المياه تعد مشكلة كبيرة يعاني منها السكان، ولاسيما في المناطق الريفية، إذ تحصل كل أسرة على ما يقدر بنحو 30 ليتر ماء يومياً، كما يجد المواطنون في هذه المدينة صعوبة في الحصول على الرعاية الصحية في المستشفيات والعيادات الخاصة، بسبب القصف وانقطاع التيار الكهربائي المستمر أياماً طويلة، وأيضاً انعدام المشتقات النفطية من مادتي الديزل والبنزين، وعدم توافرها إلا في السوق السوداء، وبأسعار مضاعفة تعادل ثلاثة أضعاف القيمة الرسمية. وأوضح الصحافي مجد الدين الخامري، أن الوضع الإنساني في تعز يتعامل معه بفكرة المقايضة من جماعة الحوثي وصالح، بمعنى أنه «في حال تم الضغط في هذا الجانب. ستتمكن ميليشيات الحوثي وصالح من تحقيق مكاسب على الأرض، سواء بإطباق الحصار، أم بأعمال القصف التي تقوم بها على الأحياء السكنية بشكل يومي». القذائف تسرق العيد وتخلف الجثث في الشوارع وخلت تعز على مدار الأشهر الماضية من ساكنيها الذين فضلوا صعوبة العيش في القرى التي تفتقر إلى الكثير من الخدمات، على العيش في ظل الرعب والموت الذي تبثه مليشيات الحوثي أينما حلت. وقال باسم غالب، من سكان حي المسبح إن «الحرب أصبحت أسلوب حياة لأبناء تعز، تعودنا عليها حتى صرنا نستغرب اليوم الذي يمر من دون سماع صوت انفجار أو قذيفة». وتابع: «معظم أهالي الحي هجروا من بيوتهم إلى القرى البعيدة عن الحرب وصداها. أما البقية فتعيش في كل يوم قصة صراع من أجل البقاء بأمان أطول وقت ممكن، ولتوفير أقل إمكانات الحياة، في ظل انقطاع كامل للخدمات المعيشية». وأضاف: «أصبحت الأمطار منذ أشهر المصدر الوحيد للحصول على المياه، ولم تبق بناية ولا طريق لم تصبه قذيفة حوثية، حتى أصبحت الشوارع خالية، يسكنها الكلاب والجثث المتعفنة». من جهة أخرى، قالت سمر علي ل «الحياة»: «استقبلنا العيد بأصوات القذائف بدلاً من التكبير، والأكفان بدلاً من الملابس الجديدة. اشتد القصف الحوثي في أيام العيد بشكل عشوائي على كل ما هو حي، وكأنه يحرم على هذه المدينة وأهلها أي شعور بفرحة قد تخفف عنهم ثقل الحرب ومعاناتها، ففي أول أيام العيد سقطت قذيفة على تجمع كبير بحي ديلوكس، ومات فيه عدد كبير من الناس، منهم أطفال ونساء كانوا بملابس العيد». وأضافت: «نحن مقطوعون كلياً عن العالم الخارجي، وحتى الداخلي، ولم أستطع منذ أسبوع أن أتواصل مع أهلي الساكنين في شارع جمال، فالاتصالات ضعيفة جداً، وتنقطع لفترات طويلة. كما انقطعت خدمة الإنترنت منذ أول أيام العيد. لقد أنهكتنا الحرب كثيراً، وحياتنا تمر، وهي لا تنتهي، فأعيرونا حياة غيرها لنقاوم أكثر».