أعادت حادثة «الرافعة» إلى الحج أساطيره القديمة، التي استهوت غربيين، فخاضوا التجربة «المثيرة»، التي أغنت مشاهدها عالم الحاج وعائلته وقراءه، إن كان مؤلفاً، مثل جوزيف بتس وآخرين كتبوا عن التجربة ووثقوا لحظاتها. ومع أن «رافعة ابن لادن» أسقطتها الرياح، بسبب «خلل في تطبيق قوانين السلامة» بحسب التحقيقات الرسمية الأولية، إلا أن الحدث بالنسبة للناجين من الحجاج، سيكون مصدر إلهام، وقصة تروى، بعد عقود كانت رحلة الحج فيها تمضي باعتياد شديد، بفضل تقدم وسائل المواصلات في العصر الحديث، وإدارة الحكومة السعودية، التي نقلت المناسبة الشريفة، من «رحلة موت» إلى «سياحة وترفيه». وعلى رغم أعداد الوفيات والإصابات في حادثة الرافعة، فإن حجاج البيت الحرام، سريعاً ما تجاوزوا الواقعة، وغدوا يروون أهوال اللحظات الأولى، وعجائب القدر، وكيف أن دقائق أو خطوات كانت تفصلهم عن الرحيل الأبدي. غير أن وفاة بعض الحجيج أثناء صلاة في أقدس مكان لدى المسلمين، جعلت الأحياء يغبطونهم أكثر من الأسى على فقدهم، وهذا جانب آخر من أسطورة المشهد. ويروي المكيون مفاهيم حجاج كانوا يفدون إلى «الحرمين» في عقود مضت، وصل الجهل ببعضهم إلى أن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة، بحثاً عن الموت في مهبط الوحي، إذ يؤمن أكثرهم أن للموت فيها فضيلة لا تتوافر في غيرها من البلاد. ووثق الكاتب السعودي أحمد محمد محمود، في ثلاثة أجزاء قصص حجاج، دونوا رحلاتهم إلى البيت الحرام في مؤلفاتٍ كتبوها، وأودعوها أساطير الحج، يوم أن كان «رحلة موت»، وذهاباً بلا إياب أحياناً كثيرة. وبين أولئك الغربي عبدالله فيلبي الذي صور في كتابه حاج في الجزيرة العربية، أهوال الحج في عصور خلت، بقوله: «رأيت حجاجاً أمضوا سنوات عدة منذ مغادرة بلادهم لأداء الحج، فهذا رجل وزوجته أبلغاني أنهما بدآ رحلتهما ومعهما طفل واحد، فأصبحوا بعد 14 سنة في المشعر، أسرة من ستة أشخاص. وهذا آخر ادعى أن عمره 120 سنة، قضى ما لا يقل عن 70 منها في طريقه من لاغوس (نيجيريا) لأداء الحج واستثمرها في تلقي العلوم حيثما مر، وكان في الخرطوم يوم قتل جنود المهدي الحاكم البريطاني غوردن باشا». ويروي الدكتور عبدالهادي التازي في كتابه «رحلة الرحلات»، أن «لقب الحاج عند بعض المغاربة يعوض الاسم العائلي، لأن المسافة بينهم وبين مكةالمكرمة لم تكن قصيرة أو سهلة، فالذين كانوا يستطيعون أن يجتازوا إقليم برقة (ليبيا) نحو مكة، كأنهم رواد فضاء باصطلاح اليوم»! أما الغربيون الذين سحرتهم أساطير الحج، فتبدو قصصهم أكثر غرابة، فهذا الكاتب جون كين، يوثق في كتابه «ستة أشهر في الحجاز»، هول الصدمة، قائلاً: «ها أنا ذا البريطاني من خلال نافذة غرفتي أحسب أبعاد قبلة المسلمين، سرة الكون... كنت أسمع أن الحجاج يأتون إلى هنا بغرض التجارة، لكن وجدتهم مسلمون حقاً. جاؤوا يغسلون ذنوبهم، مؤملين رضوان الله». لكن ما أشعره بالحرج، تصديق المسلمين أنه على ديانتهم بيد أنه لم يكن كذلك، «وهو ما كان يوخز ضميري، ولكني تذكرت بحاراً يقول لزميله، لقد كذبت علي، وعليك تصديق كذبتك، وهكذا أنا الآن، علي أن أصدق كذبتي بدعواي أني مسلم، فلا مجال الآن للتراجع، وبعد فترة في مكة أصبحت فيها بين معارفي مسلماً، كما لو كنت ولدت فيها، وبدأت أصدق نفسي». ولئن شهدت مكة في عقود خلت، حوادث لافتة، مثل: جهيمان، ونفق المعيصم، ناهيك عن حرائق منى، وتدافع الجمرات، تبقى «رافعة ابن لادن» بسبب عصر التقنية والشبكات الاجتماعية، والقرارات الملكية إثرها، ذات طابع مختلف، سيبقى لافتاً، ولا جرم أن واقعتها ستلهم حجاجاً حكايات عند العودة وأساطير تروى.