حضّ صندوق النقد الدولي حكومات شمال أفريقيا على إصلاحات مالية عاجلة في الموازنات المقبلة، واعتماد أنظمة ضريبية حديثة، وإصلاح أنظمة التقاعد ورفع الدعم عن الأسعار، لتعزيز أداء الاقتصاد المحلي وتحسين أوضاع المواطنين الاجتماعية، وتجاوز الصعوبات التي ترافقت مع الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية في منطقة البحر الأبيض المتوسط التي تعاني، إلى جانب بطالة الشباب، مآسي الهجرة وأسبابها الأمنية والاقتصادية. وتزامن صدور توصيات صندوق النقد إلى دول المنطقة مع زيارة مديرته كريستين لاغارد، إلى تونس مطلع الأسبوع الجاري، حيث أشارت في خطاب إلى أن «نجاح التحولات السياسية في المنطقة العربية رهن بتحقيق تقدّم اقتصادي اجتماعي يستجيب لتطلعات الشباب ويستفيد منه المواطنون». وتتفاوض تونس للحصول على 1.7 بليون دولار إضافية من صندوق النقد، في إطار خط ائتماني جديد لإصلاح الحسابات الكلية وتحسين شروط الاقتراض من السوق الدولية، بعدما حصلت على دعم مشابه قبل سنتين قيمته 1.74 بليون دولار. وخفّض الصندوق توقعاته لنمو الاقتصاد إلى أقل من 1 في المئة خلال العام الحالي من متوسط 2.5 في المئة خلال السنوات الأخيرة، بسبب تأثير الاعتداءين الإرهابيين على متحف «باردو» وشاطئ سوسة في تونس، في قطاع السياحة التونسي، وتراجع العائدات الخارجية والاستثمارات الأجنبية. وقالت لاغارد: «الأعمال الإرهابية قلّصت السياحة في تونس بنسبة 50 في المئة، ما انعكس سلباً على إجمالي الاقتصاد وأضرّ بفرص العمل، على رغم استفادة تونس من تراجع أسعار النفط في السوق الدولية وبداية الانتعاش في منطقة اليورو، التي تستحوذ على 70 في المئة من الصادرات التونسية». واعتبر الصندوق أن «الربيع العربي لم يحقق نجاحات اقتصادية واجتماعية كما كان متوقعاً، إذ إن معدلات النمو في كل اقتصادات المنطقة خلال العامين الماضيين، جاءت أقل من تلك المسجلة قبل الأزمة المالية العالمية». وتوقّع نسب نمو ضعيفة في كل من تونسوالجزائر وليبيا، مع تحسّن في أداء اقتصادي المغرب ومصر، حيث سيتجاوز معدل النمو 4 في المئة خلال العام الحالي. وعلى رغم اختلاف الأسباب، فإن المنطقة المغاربية تبقى أقل جذباً للاستثمار والسياحة مقارنة بالسنوات السابقة، إذ تراجعت التدفقات الاستثمارية من 17 بليون دولار عام 2012 إلى 11.5 بليون عام 2014، وبلغت 4.8 بليون دولار في مصر ونحو أربعة بلايين في المغرب، لكنها تقلصت في الجزائر من 2.6 بليون دولار إلى 1.5 بليون، وفي تونس من بليون دولار إلى 110 ملايين، وهي مرشحة للتراجع أكثر هذه السنة. وتسبب تراجع أسعار النفط بأزمة خانقة للاقتصاد الجزائري، الذي خسر نحو 35 بليون دولار من عائدات النفط والغاز خلال العام الحالي. وأشار المصرف المركزي في تقرير، إلى أن «احتياط النقد الأجنبي انخفض بوتيرة سريعة بسبب الحاجة إلى تمويل العجز المالي والتجاري، إذ تراجع من 193 بليون دولار إلى 159 بليوناً بين حزيران (يونيو) 2014 وحزيران 2015». وقال مدير المغرب العربي وغرب آسيا في البنك الدولي جان فرنسوا دوفان، الذي زار الجزائر مطلع الأسبوع: «انهيار أسعار النفط أثر سلباً في الاقتصاد الجزائري، والوضع مرشّح للاستمرار لفترة طويلة، ما يتطلب إصلاحات عاجلة وعميقة لتنويع مصادر الدخل وتقليص الاعتماد على عائدات النفط». وتعتمد الجزائر بنسبة 97 في المئة من العائدات و60 في المئة من مصادر الموازنة على إيرادات الغاز، وتحتاج إلى إنفاق عشرات البلايين من الدولارات سنوياً لدعم أسعار المحروقات والمواد الاستهلاكية الأساس، ما فاقم عجز الموازنة الذي تجاوز 22 في المئة، والميزان التجاري الذي يعاني عجزاً بنحو 15 في المئة من الناتج المحلي. وتحتاج الجزائر 42 بليون دولار لاستكمال النفقات المقررة في الموازنة أو إلغاء عشرات المشاريع الكبرى خلال العام الحالي. رفع الدعم في الجزائر ونصح صندوق النقد برفع الدعم تدريجاً عن الأسعار الاستهلاكية، وتقليص النفقات الحكومية وزيادة الضرائب على الدخل والشركات والقيمة المضافة، بهدف تحسين المالية العامة وتجنّب الاستدانة الخارجية وتأجيل أزمة السيولة النقدية إلى عام 2019، في انتظار تحسّن أسواق النفط العالمية. وتشمل هذه النصائح والإملاءات كل حكومات شمال أفريقيا، التي يحضّها الصندوق على الإسراع في اعتماد آليات الضريبة وتقليص الإنفاق العام والتحكم بمصاريف القطاع العام ووقف التوظيف إلا للضرورة، بهدف تحقيق نمو أعلى ومعالجة الخلل الاجتماعي الذي قد يشكل تهديداً على المدى المتوسط. ورأى خبراء في صندوق النقد أن «الربيع العربي عطّل الإصلاحات في معظم دول المنطقة، وتراجع الأسعار فاجأ الاقتصادات المعتمدة على الطاقة». وأشار تقرير عن الضرائب في منطقة مينا إلى أن «العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تتحقّق عبر السياسات الاقتصادية فقط، بل يجب إرساء سياسات مالية جيدة يمكن استخدامها لدعم النمو وتحسين توزيع الثروة». ونصح الصندوق دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط غير المعتمدة على الطاقة، بتوسيع قاعدتها الضريبية ومدّها على القطاعات غير المهيكلة، وإلغاء نظام الامتيازات للشركات، واعتماد زيادة تصاعدية في الضرائب على الدخل والممتلكات، بينما نصح الاقتصادات النفطية الغنية باستحداث ضريبة على القيمة المضافة وعلى دخل الشركات بمعدلات منخفضة. ويتضمن مشروع الموازنة المغربية لعام 2016 إجراءات مستوحاة من نصائح صندوق النقد لتقليص العجز المالي إلى 3.5 في المئة، وتحسين الموارد الجبائية عبر زيادة معدلاتها على الأجور الكبيرة، لتمويل نفقات صندوق «التماسك الاجتماعي» الموجّه الى الأرامل والفئات الفقيرة في المجتمع، ورفع الدعم تدريجاً عما تبقى من المحروقات والسكر لتحرير «صندوق المقاصة»، وتوفير هوامش لدعم الاستثمار وتحسين مداخيل الفئات الهشة في المجتمع. وحضّ رئيس الحكومة عبد الإله بن كيران الوزراء على تقليص النفقات الإدارية، ومنها السفر والحفلات وشراء السيارات، والتحكم بنفقات الموظفين وزيادة الضرائب لتشمل قطاعات وفئات جديدة، وإصلاح الضريبة على القيمة المضافة، ومواصلة رفع الدعم عن السلع الاستهلاكية وزيادة الضرائب على بعضها. النظام الضريبي في المغرب وأكد صندوق النقد أن «النظام الضريبي في المغرب يعاني قاعدة ضريبية ضيقة جداً وحوافز جبائية تعيق النمو». وعلى رغم أن الضرائب في المغرب تضاهي مثيلاتها في الأسواق الصاعدة، ونسبتها 25 في المئة في المتوسط ، فإن جزءاً من الاقتصاد إما مُعفى من الضرائب أو يتهرّب منها، كما أن 70 في المئة من إجمالي الضرائب يدفعها العاملون والموظفون والأجراء والمستخدمون، في حين يدفع أصحاب المهن الحرة العالية الدخل ضرائب مخفّضة، وتستفيد الشركات من امتيازات عدة لقطاع العقار والبناء والسياحة والزراعة والصناعة والصادرات وغيرها. وأكدت دراسة صندوق النقد أن الضريبة على الدخل في المغرب هي الأعلى في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وتصل إلى 38 في المئة، تليها تونسوالجزائر وإيران ب35 في المئة ثم مصر ب25 في المئة فلبنان والأردن ب20 في المئة. ويشمل الإصلاح الأهم المترقّب، أنظمة التقاعد التي تثير جدلاً بين النقابات والحكومة حول مستقبل «الصندوق المغربي للتقاعد»، الذي سجّل العام الماضي عجزاً بنحو بليون درهم (103 ملايين دولار)، مرشحاً للارتفاع إلى ثلاثة بلايين درهم نهاية السنة. وتقترح الحكومة رفع سن التقاعد وتقليص قيمة الأجر والتراجع عن بعض المكاسب الاجتماعية للعاملين في القطاع العام لإنقاذ الصندوق من الإفلاس عام 2020، لكن الحكومة تتغاضى عن التحقيق في أسباب العجز في الصندوق، مثل الاختلاسات وسوء الإدارة وتحميل الأجراء مسؤولية الأزمة، ما سيُضعف فرص العمل في المغرب ويزيد معدل بطالة الشباب. وتعتقد الحكومة أن تطبيق تلك الإصلاحات، على رغم عدم شعبيتها، ضروري لتحسين الاقتصاد المحلي وانتزاع بعض الفوائض المالية للإنفاق على الاستثمار والمجالات الاجتماعية. ويحتاج المغرب إلى مواصلة الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي بدأها مع صندوق النقد عام 2012، في مقابل حزمة خطوط ائتمان بقيمة 11.6 بليون دولار.