من الشعراء من يصطاد السمك في النهر وهو جالس في غرفته/ منهم من يأتي بالنهر إلى غرفته/ منهم من يغرف بيسر ومنهم من ينحت بمشقة.../ أستطيع توصيف حالي؛ كذاهب في الحياة بيدين عاريتين/ ولا يدري، من هو الصياد؟/ من هي الطريدة؟..». مرة اقتسمت غرفة واحدة مع الشاعر محمد الثبيتي في رحلة إلى بغداد وكان العام 1985 م، حينها «مستني نار الصالحين» وعرفت كيف علي أن أكون إنسانا، ثم كيف أخلع ذلك قبل الدخول إلى الشعر.. الثبيتي كان متربعا هناك، يصحو شاعراً ويغفو شاعراً.. كانت غرفتنا محط المهرجان في المربد، وبالطبع كان هو مصدر الجاذبية لسائر مريدي الفندق... عرفته شاعراً قبلها حين جاء إلى الأحساء ليحيي أمسية شعرية ونقدية قائمة على نص واحد «التضاريس» ترافقه قراءة نقدية للدكتور سعيد السريحي. كنت من عصبة قليلة تتلمس خطو الحداثة وتترحل أينما وجدت منفذاً صغيراً لتعلن عن نفسها، تتبعت أمسياته من الطائف إلى الباحة (تلك التي لم يتمكن من حضورها). التقيت به بعدها في مدينته مكة، وكان يفيض بمطلع قصيدة «وأفقت من تعب القرى» ، يدندنها وهو يقود سيارته ولا ندري إلى أين يتجه بنا الليل، الثبيتي شاعر ينحت بدأب قصيدته. في الضفة المقابلة كنت طفلاً يقف طويلاً أمام رفوف الكتب، حتى تجرأت يوماً وتناولتني بيديها. إشارة لا أدري متى انطلقت، لكني أتذكر مديراً للمكتبة العامة قريبا للعائلة، وبعد أن وبخني أول مرة، تغاضى في الثانية وأعارني ما أريد من كتب دون تدوين اسمي في سجلات الإعارة، حتى وشى بي لاحقاً، كان الزمن عريضاً، يتسع لكثير من الدروس واللعب بما فيها لعبة القراءة.. لم أعتد أن ألتفت إلى الخلف بقصد الكتابة عن حياتي، فهي أمامي تتدحرج وتلاعبني في طريق غامض. أرى الشعر في النص وليس القصيدة فقط، أرى كل ما هو حي ونابض في الحياة نصاً، أحياناً يمتلك شعرية ظاهرة وأحياناً يخبئها، وبالأحرى أرى الشعر في العين الناظرة، حينا من الدهر تتدرب. أطرب للنصوص الشعبية مثلما أتلمس شعرية السينما، والنحت والتشكيل والقصة والرواية ..... كل ما هو إنتاج إبداعي مقصود ... وأضيف تذوقي لما هو إنتاج غير مقصود بذاته للإبداع، فالشعر بنظرة ثانية يتكشف لي من صياغة إنسانية فاعلة في الحياة.. والعمل... في الكتاب مرة وخارجه بعدها، لكل ما هو مفكر به ويمكن تأمله وتخيل سواه، الحياة؛ فيلم عليك أن تشتغل عليه وفيه، عليك بمهارة المخرج، ودقة المونتاج، عفوية الممثل، ورشاقة كاتب السيناريو.... لن تحتاج إلى مصور محترف غيرك، وبوسعك أن تختار لفيلمك مؤثراته السمعية، كما باستطاعتك أن تصحح ألوانه و تضبط إضاءته وتحافظ على وتيرة الحس الدرامي حتى لا تمل وتسهو..... من هنا أجد الشعر متى توفر في أي نص سواء في الأشكال الإبداعية المقصودة بذاتها أو حتى خارجها... لهذا أجدني على علاقة مع مختلف الأشكال الشعرية وغيرها من الفنون..... وما الشكل إلا اختيار تعبيري، كثيراً ما كان تأثيراً خارجياً على المبدع، صاغته له بيئة مثل بيئتنا الأبوية. وقبل هذا وبعده، السخرية.... خير وسيلة لتحمل مشقة الشعر، لتخفف من صرامة الحياة وجهامة العالم: اقبض عليها ووارها خلف ظهرك بدلاً من الندم. أؤكد من هنا أني كنت- فترة من حياتي - لا أدعي أني شاعر، ليس من التواضع وإن كان يتلبس مظهره، بل كان على سبيل إبقاء منفذاً موارباً للتملص من حمله، حتى وقفت يوماً مفرداً بين النخيل، ولم أجد مواسياً سوى الكلمات، وصرخت بلا صوت أني شاعر حتى لو لم يعرف أحد. في الأحساء تشكلت طفولتي بين قامات النخيل والينابيع المتدفقة، بين جبل القارة وتحت أقواس الطين المجصص والأساطير المزينة بالجن والرياحين، ربما لم تكن بقدر ما هي عليه الآن في خاطري، لكني كنت صغيراً يوماً ما، وكل ما حولي شاهق وعال، الأمهات قادرات على حلب المعجزات الصغيرة، والآباء أكثر مما يجب، بينهم صاعد منارة بلا سلالم، أو مجنون يطوف الأزقة حاملاً فوق رأسه ماكينة خياطة سوداء. الشعر أقربنا للخطأ، هو النافر والمتفرد عن القطيع وهو غيره. وربما العكس أي ذلك الهش في الصخرة الحرة أو عرق اللهب في سواد الفحم. كل ما هناك أني أكتب في الحيرة ولا أطمئن، وأقرأ شعر الآخرين لأطفئ ظمأي. تنبهت مبكراً على أن اللغة ليست مفتاحاً فقط، بل الباب مفتوحاً أيضاً. الشعر هو انزياح ما، عن صوت الجماعة وانشغال بالخافت وابتعاد عن ضجيج اللافتات، هو استرداد أحلامي وكوابيسي الصغير والكبير منها، استعادة نفسي عبر تأمل تفاصيل صغيرة تلتقي مع العالم في كل لحظة. مرت الشعرية العربية بفترة من إقصاء الكائن كونه فرداً وصيرته نكرة في عداد الجمهور، علّينا أوهاماً وادعينا أن الحقيقة واحدة، أن الجمال بيّن وأهملنا الأخطاء. هكذا هُزمنا، وعلى الشعر إعادة الاعتبار لذاتي، دونما عداوة بل بفائض الحب علني أشفى. في «خفيف ومائل كنسيان».. تخففت من حمولات باهظة، وتمرست على النسيان، لأدخل مأخوذاً في خضم حيوات عملية سرقتني واستسلمت لخداعها، مثلاً.. انتظرت الشعر الذي يجيء على استحياء وفي انقطاعات يطول ما بينها من وقت... خبطتني الحياة بفأسها في 2003 ولذت بغار الشعر وأرسلت مجموعة «سهم يهمس باسمي».. التي كتبت في نفس واحد، وصدرت في 2005 من دار الكوكب ورياض الريس بيروت، في حين جمعت متفرقات ما سبق قبلها بعنوان «الهواء طويل وقصيرة هي الأرض»... التي تأخر إصدارها حتى عام 2014 من نادي تبوك ومدارك للنشر... عام 2005 أقدمت على الكتابة مباشرة على الكيبورد.. نصوص «كتبتنا البنات» الذي صدر نهاية 2014، كتبت بين 2006 و2007.... في 2009 عشت لفترة في هيوستن وفيها ذهبت إلى الشعر ولم أنتظر... ونتج عنها نصوص تمارين الوحش التي صدرت من دار الغاوون 2010 بيروت....وفي مطلع العام الحالي 2015 صدر كتابي الشعري «علامة فارقة» من دار مسعى البحرين. لي من الأصدقاء ما يعجز الحب، لي من الرفاق ما ينضج الطريق ويرهق غاياته، لي من الأصحاب ما يخشاهم الغدر.... ويكفيني صديق واحد في الشعر.... لا يشفق على ما أكتب ولا تأخذه في الشعر لومة لائم... في نهاية العام 2013 تسلمت إدارة جمعية الثقافة والفنون بالدمام، وها أنا أعيش تجربة الإدارة الثقافية للمرة الثانية بعد تجربة النادي الأدبي بالمنطقة الشرقية للفترة من 2006 إلى 2010. إلا أنني كنت حريصاً على عدم التفريط في الشعر مقابل العمل الإداري، وربما تداركت ذلك قدر الإمكان، في السنوات الخمس الأخيرة، وفيما كنت أعد كتابين شعريين شبه جاهزين للطباعة، جاءني اتصال الدكتور سعيد السريحي بخبر الجائزة، فارتبكت أوراقي وصار لزاماً علي أن أتريث وأعيد النظر، ليس في ما أكتب فقط، بل في كل شيء. جملٌة صلبة أريدُ أن أكتبَ مرّةً واحدة/ بما يكفي/ أريدُها كلماتٍ تكفُّ عني اللغوَ والكلام/ أبري حوافهَّا وأشدُّ قوسَها في أضيقِ عبارة/ أريدُها قصيدةً مدبّبةً مُحكمَة ومحشوّةً بالبارود/ مثلما أكتبُ عن الثورِ والمحراث/ والفلاحِ والبذرة/ والزهرِ والثمر/ تحتَ مطرٍ يصبُّ كلَّ صباح،/ في جملةٍ صلبة».