أمام محل السندويشات الشهير في حي مصر الجديدة (شرق القاهرة)، يجلس الآكلون والآكلات من أبناء الحي الراقي وبناته، يأكلون السندويشات ويرتشفون العصائر والمياه الغازية، ويُنَظِّرون ويفتون ويحللون الأحداث المصرية الراهنة، وأحياناً يتوسعون ويتمددون ويتوغلون إلى المجريات العربية الآنية، خصوصاً حين تتفجر الأحداث وتبزغ الأخبار العاجلة من «داعش» وفعاليات الذبح، إلى لبنان وإرهاصات القمامة. وبينما الجدل متأجج والحوار متفجر عن ربيع القمامة في لبنان وعظمة التظاهر في ساحة الشهداء وعبقرية الهاشتاق «# طلعت - ريحتكم»، وتناول واحتساء المرطبات سائراً على قدم وساق، كانت التلال من حولهم تنمو وتزدهر، والجبال تكبر وتتمدد، والروائح تبزغ وتتسرب حيث البقايا الناجمة عن أوراق المأكولات والمناشف الورقية والعلب البلاستيكية وبقايا السجائر ومخلفات الأطعمة تتكون وتترسب، ثم تنتعش وتتطور، مؤدية إلى جبل ضخم من القمامة المعروفة مصرياً ب «الزبالة»، والمشار إليها في مصر الجديدة باعتبارها «رابيش». «الرابيش» الناجم عن قعدات أبناء الذوات التحليلية وبنات الأصول التنظيرية عن الموقف في لبنان من الأزمة ذات الرائحة والوجه العفن والمحتوى الضار بالبيئة والإنسان والسياسة، بدا وكأنه في واد مغاير تماماً ل «الرابيش» اللبناني. ف «الرابيش» اللبناني، وفق قعدة ال «رابيش» المصري، «سياسي»، وفي أقوال أخرى «طائفي»، وثالثة «نابع من فراغ رئاسي»، ورابعة سببه «قشة حكومية قصمت ظهر السياسة اللبنانية». ولسبب ما غير معروف، لم يتلفت أي من الجالسين أو يزعج أي من الآكلين أو يعكر صفو أي من تلال النفايات المتنامية حولهم. ولسبب ما غير معلوم، بدا ال «رابيش» اللبناني أزمة سياسية ومشكلة طائفية وسدة استراتيجية حيناً في مقابل مدعاة للتوحد واختبار لعدم التحزب ودفعاً لنبذ الطائفية، وهو ما جعل نقاشات الأزمة اللبنانية ذات نكهة خاصة في الأجواء المصرية. الأجواء المصرية التغريدية حوت مشاركات سياسية عدة، بعضها تضامني، وبعضها استهزائي، وبعضهم الآخر يندرج تحت بند «الصيد السياسي في مياه النفايات العكرة». فمن تغريدة لناشطة مصرية تقول فيها ان «تجربة الرفاق في بيروت تجربة مهمة من كل الزاويا، ويكفي أن الشارع خرج للمرة الأولى من غير طائفية أو حزبية. للمرة الأولى بقى فيه شارع لبناني»، إلى صورة متداولة لشابات لبنانيات متظاهرات ضد القمامة مذيلة بتمني «إوعدنا يا رب»، إلى تسييس مصري للمسألة وتشبيه في محله بالمهزلة. مهزلة القمامة المتراكمة في مصر تتحدى زميلتها في لبنان. فمن سور المدرسة الابتدائية حيث الرسم الجداري الضخم لعبارة «النظافة من الإيمان»، والتنويه الصحي الظاهر عند مدخل المستشفى الجامعي حيث «ممنوع منعاً باتاً إلقاء المخلفات الصحية» وسط كومة من المخلفات الصحية، وخطبة الجمعة الماضية التي تم تحديد موضوعها ليكون «النظافة وأهميتها للفرد والمجتمع»، رغم أن العديد من محيط المساجد عامر بما لا يلذ أو يطيب من النفايات والمخلفات والقمامة، سواء كانت «رابيش» في الأحياء الراقية» أو «زبالة» في المناطق الشعبية والعشوائيات، ينخرط المصريون في مقاربات جائرة ومقارنات ظالمة. من الظلم مقارنة أزمة النفايات الطارئة في لبنان بأزمة مصر التاريخية مع القمامة. فبينما هي ذات أبعاد سياسية وزوايا حزبية هناك، هي ذات أبعاد شعبية وزوايا سلوكية إضافة إلى السدة الحكومية هنا حيث عقود من الفساد ودهور من تشابك المصالح وتضافر العمولات وتضامن المكاسب في مجال إبرام العقود وإرساء المناقصات، بما في ذلك مجال جمع والتعامل مع النفايات. فالدوائر المغلقة التي يدور فيها المصريون منذ ما يقرب من عشر سنوات للبحث عن الجهة المسؤولة عن تراكم القمامة في الشوارع والميادين، رغم وجود شركات كبرى وسيارات عدة وجيش من عمال النظافة الحكوميين وجحافل من جامعي القمامة غير الرسميين، لا تؤدي إلى نتائج ملموسة أو معلومات معروفة. لكن الدوائر الأخرى غير المغلقة حيث تتجذر ثقافة اعتبار الشارع مقلب قمامة عاماً يحفل بأكياس قمامة منزلية وتجمعات نفايات يلقيها المارة، وأخرى يتخلص منها قائدو السيارات، إضافة إلى التعامل مع كل ما وقع خارج حدود الشقة السكنية باعتباره قابلاً لاحتواء بقايا تنظيف السمك وما أسفر عن رمي الفواكه والخضراوات الفاسدة، أدت إلى تحول المحيط العام للمصريين إلى مقالب قمامة يتقبلونها حيناً، ويتعايشون معها أحياناً، ويعتبرون الحكومة مسؤولة عنها دائماً. ودائماً ما تؤدي الأحداث العربية إلى تأليب المواجع المحلية، وهي المواجع التي تألبت هذه المرة لتسفر عن تنظير شعبي عن القمامة اللبنانية وتنوير إعلامي متفجر من رحم #طلعت-ريحتكم. شن بعضهم هاشتاقاً من وحي الأزمة متمنياً #مصر-بتنضف، وآخر متأزماً #مصر-ولبنان-إيد-واحدة، وثالث حكومياً #مصر-مش-لبنان. وتركز قنوات تلفزيونية في ضوء الأزمة اللبنانية على حملات توعوية بهدف تغيير السلوك عنوانها «الزبالة تلف تلف وترجع لصاحبها»، وأخرى تحذيرية عن غرامات ومخالفات لمن يلقي القمامة في الشارع (رغم أنها لا تنفذ)، وثالثة تذكيرية حيث ينشط معدو البرامج لاستضافة مسؤولي النظافة (أو قلتها) وخبراء التجميل (أو انعدامه) ووزراء العشوائيات والصحة والتنمية المحلية، وكذلك الطيران المدني. فمن إقالة رئيس مصر للطيران لأسباب من بينها قطع الخردة على مهبط الطائرات ومقلب قمامة في قلب أرض تابعة للشركة، إلى التباس مفهوم رفع القمامة ليتحول لدى بعضهم إلى نقلها من مكان إلى مكان، إلى رفع شعار «النظافة من الإيمان» داخل الشقة السكنية وتحول محيطها إلى مقلب زبالة (في الأحياء الشعبية) «رابيش» في المناطق الراقية، ومنها إلى تجمع الشباب والشابات مساء للحديث عن أزمة النفايات في لبنان وسط جبل النفايات في محل السندويشات.