باشرت السلطات الكوسوفية موجة من الاعتقالات في صفوف السلفيين والمؤيدين ل «الجهاد» في سورية والعراق، ولكن الاعلان عن حملة المداهمات التي طاولت كل أرجاء كوسوفو يوم الاثنين 10 آب (أغسطس) الجاري وتصدّرت أخبار الوكالات العالمية تركت ردود فعل متباينة لدى المعارضة سواء العلمانية أو الاسلامية الصاعدة ولكنها متشابهة أيضاً في نقدها للحكومة، كما فتحت ملف «مفتي كوسوفو» المثير للخلاف. الغلابة والائمة كان وزير الداخلية في حكومة تصريف الاعمال بيرم رجبي أعلن أولاً عن اعتقال أربعين من «المجاهدين» في كل أرجاء كوسوفو في حملة دهم طاولت الشباب الكوسوفيين الذين شاركوا في القتال الدائر في سورية والعراق سواء مع «داعش» أو مع «جبهة النصرة»، بينما لا يزال البحث جارياً عن 17 «مجاهداً»على رأسهم بويار ابراهيمي الذي عاد في نيسان (أبريل) الماضي ليجند المزيد من الشباب. وفي لقاء مع التلفزيون كشف وزير الداخلية عن ضبط مواد مختلفة مع هؤلاء الشباب تضم أسلحة ومواد اعلامية تحرض على «الجهاد» وأدوات اتصال متطورة مع جبهات القتال في سورية والعراق الخ، كما أنه كشف عن احتمال توسّع دائرة الاعتقالات لتضم أئمة جوامع حرّضوا على «الجهاد» في سورية والعراق. ولكن المعارضة العلمانية التي فازت في الانتخابات البرلمانية الاخيرة («الرابطة الديموقراطية» و «حركة تقرير المصير» و «التحالف لأجل مستقبل كوسوفو» و «المبادرة لاجل كوسوفو») وحصلت على 63 مقعداً في البرلمان الجديد (من اصل 120 مقعداً) تحفظت عن هذه الضجة المفتعلة التي صاحبت الإعلان عن هذه الاعتقالات. فقد صرّح عيسى مصطفى رئيس حزب «الرابطة الديموقراطية» ان هذه الحملة جاءت «متأخرة» ليشير بذلك الى تقاعس حكومة هاشم ثاتشي خلال السنوات القليلة الماضية عن القيام بأي اجراء لوقف ذهاب الشباب الكوسوفيين للقتال في سورية. أما النائبة الكوسوفية عن حزب «التحالف من أجل مستقبل كوسوفو» دونيكا كاداي- بويوبي فقد كانت أعنف من ذلك حين صرحت ان حكومة هاشم ثاتشي التي تتظاهر الان بملاحقة «الجهاديين» هي التي سمحت بتسرب هؤلاء «المتطرفين» الى المؤسسات مقابل «الأموال القذرة» التي كانت تتلقاها (جريدة «اكسبرس» 11/8/2014). وجاء النقد الأشد للمعارضة العلمانية التي تتمتع بنفوذ كبير في كوسوفو في مقابلة مع الكاتب الصحافي المعروف خليل ماتوشي، الذي اعتبر ان ما حدث كان مجرد «عرض مشهدي» لارضاء الغرب لأن التحالف الذي كان يحكم كوسوفو خلال السنوات السابقة برئاسة هاشم ثاتشي هو المسؤول الاول عن تزايد التطرف بحكم التقاء المصالح مع بعض الأئمة مثل مفتي كوسوفو الشيخ نعيم ترنافا والشيخ شوكت كراسنيتشي والشيخ عرفان صالحي وغيرهم. وحذّر ماتوشي من نتائج هذه الحملة التي شملت فقط «الغلابة» من الشباب الذي غرّر بهم الائمة المذكورون لأنها ستثير السخط بين عامة المسلمين (95 في المئة من السكان) لتوحي بوجود «مؤامرة» على الاسلام في كوسوفو. ومع تأكيده على «العلاقة الخاصة» االتي تربط رئيس الحكومة هاشم ثاتشي ومفتي كوسوفو الشيخ نعيم ثاتشي طالب ماتوشي الاحزاب ومؤسسات الدولة بمساءلة «رأس الهرم» وليس قاعدة الهرم والمطالبة باستقالة مفتي كوسوفو الذي يرأس «الجماعة الاسلامية» التي تمثل المسلمين أمام الدولة على رغم انها لا تتمتع بوجود قانوني، واقرار قانون جديد ينظم الجماعات الدينية ويسمح بانتخاب رئيس ل «الجماعة الاسلامية» يمثل الاسلام المعتدل في كوسوفو (جريدة «اكسبرس» 11/8/2014). ومن ناحية أخرى فقد انتقد بعنف الحزب الوحيد الذي يمثل الاسلام السياسي في كوسوفو (ليسبا) هذه الحملة من الاعتقالات التي طاولت نائب رئيس الحزب فاتوس رجبي، واعتبر ان هؤلاء المعتقلين جرموا فقط لأنهم مسلمون «يطلقون لحاهم ويؤدون صلاتهم». وقد وصل انتقاد هذا الحزب للحكومة «التي شكلتها السفارات الاجنبية في بريشتينا» الى حد مقارنة ما يحصل الآن بما حصل في كوسوفو أثناء حكم الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش. الموقف الاميركي الجديد المطالبة باستقالة الشيخ نعيم ترنافا الحليف الوثيق لرئيس الحكومة العتيد هاشم ثاتشي (2008-2014) تفاعلت في الايام الاخيرة، وبخاصة بعد ان دخلت الولاياتالمتحدة على الخط سواء من واشنطن او من خلال سفارتها في بريشتينا لتعبّر أكثر عن السخط المتزايد ازاء رئاسة الشيخ نعيم لهذه المؤسسة سواء بين الائمة أو بين المثقفين المسلمين في كوسوفو. فالشيخ نعيم، الحاصل على ليسانس في العقيدة من جامعة الازهر في 1984، كان يتولى ادارة المدرسة الاسلامية في بريشتينا خلال 1995-2003، ثم قفز بعلاقته الخاصة مع رئيس الحزب الديموقراطي هاشم ثاتشي ليصبح «مفتي كوسوفو» في 2003، أي في الوقت الذي كان فيه حزب ثاتشي يسيطر بالتدريج على مؤسسات الدولة. وفي هذا السياق مارس الشيخ نعيم سياسة تعزيز سيطرته على هذه المؤسسة التي تمثل المسلمين امام الدولة منذ يوغوسلافيا السابقة بواسطة حلقة ضيقة من الموالين له مما أثار السخط بين بعض الائمة الذين بادروا الى تأسيس «نقابة الائمة» برئاسة الشيخ ادريس بلالي إمام الجامع الكبير في مدينة بودييفو، التي أصبحت تتابع وتندد بممارسات الشيخ نعيم التي تعتبرها مخالفة للقوانين والانظمة ومضرّة بمصالح هذه المؤسسة العريقة. ومن ناحية أخرى تزايد بعد انتخاب الشيخ نعيم عدد الحاصلين على شهادة الدكتوراه في مختلف مجالات العلوم الاسلامية (الفقه وأصوله، علوم القرآن والحديث، العقيدة الخ) من الجامعات المعروفة، ولذلك لم يعد من المناسب أن يبقى «مفتي كوسوفو» بشهادة ليسانس مع وجود هؤلاء خارج المؤسسة لكي لا ينافسوا الشيخ نعيم. ولذلك لجأ الشيخ نعيم بواسطة ممثله في القاهرة بكر اسماعيل الى الحصول على شهادة ماجستير من «الجامعة الاميركية المفتوحة» في القاهرة (التي لا تعترف مصر بشهاداتها) في 2003 وكان يعدّ العدة للحصول على شهادة دكتوراه في لبنان لولا اكتشاف «تداخل» لرسالة الماجستير مع رسالة أخرى. أما الوسيط في هذه العملية فقد «لطش» رسالته للماجستير من كتاب «الثقافة الالبانية في الابجدية العربية» لمحمد موفاكو وكوفئ على ذلك بتعيينه سفيراً لكوسوفو في القاهرة بدعم من الشيخ نعيم. ومع ذلك يلوم المثقفون المسلمون في كوسوفو الشيخ نعيم على أمرين أضرّا كثيراً بالمؤسسة التي تولاها في 2003 وكان يمكن له أن يفيدها كثيراً بفضل علاقته الشخصية القوية برئيس الحكومة ثاتشي. الأمر الأول هو تقاعس الشيخ نعيم عن مطالبة الحكومة بإصدار قانون جديد لمراجعة التأميمات التي حصلت في يوغوسلافيا السابقة والتي شملت الأوقاف التي كانت تمنح استقلالية مادية للمؤسسة، وذلك على نمط ما حصل في مقدونيا وألبانيا وغيرها، وبذلك بقيت كوسوفو الدولة الوحيدة في البلقان من دون قانون كهذا. أما الأمر الآخر الأخطر فهو ان الشيخ نعيم بقي يمثل المسلمين في مؤسسة ليس لها وجود قانوني. فبعد انهيار يوغوسلافيا السابقة واستقلال الدول المنبثقة عنها صدرت قوانين تنظم وجود المؤسسات الدينية تضمن وجود شفافية لهذه المؤسسات في إدارة شؤونها مما يتيح للدولة والمجتمع المدني متابعة عملها. وعلى حين أن كل الدول المنبثقة عن يوغوسلافيا السابقة أصدرت مثل هذا القانون الذي نظّم العلاقة بين الدولة والمؤسسات الدينية بقيت كوسوفو الدولة الوحيدة دونما هكذا قانون. أما السبب فهو العلاقة الشخصية والمصالح المتبادلة بين الشيخ نعيم ورئيس الحكومة هاشم ثاتشي. فالشيخ نعيم لا يريد أن يحرج رئيس الحكومة في ما يتعلق بالأمر الاول ويناسبه عدم إصدار الحكومة لقانون ينظم الامر الثاني لأن الشفافية التي يفرضها مثل هذا القانون تقطع الطريق على الكثير من «الإشاعات» المتداولة في كوسوفو حول التصرف بالمساعدات المالية التي تأتي من الخارج وحول غسيل الأموال الخ. وفي مقابل هذه الانتقادات المتزايدة فاجأ الشيخ نعيم الرأي العام في صيف 2013 برغبته في تعديل القانون الداخلي ل «الجماعة الاسلامية» بما يتيح له البقاء لولاية ثالثة على رأس المؤسسة. وبسبب معارضة جابر حميدي رئيس المجلس الأعلى للجماعة الاسلامية قام أنصار الشيخ نعيم بعزله في الجلسة المخصصة لمناقشة التعديل في شكل غير قانوني في 21/7/2013، مما فتح الباب لإقرار التعديل و«انتخاب» الشيخ نعيم لولاية ثالثة تنتهي في 2018. وفي حين كانت هذه الانتقادات ضد الشيخ نعيم تدور داخل المؤسسة أو داخل المجتمع المدني الكوسوفي جاء الآن موقف الولاياتالمتحدة ليوجه دعماً قوياً للاصوات المطالبة باستقالة الشيخ نعيم وإقرار قانون للجماعات الدينية يتيح آلية شفافة تضمن انتخاباً صحيحاً وعملاً متسقاً مع مصالح «الجماعة الاسلامية» التي يفترض انها تمثل 95 في المئة من السكان. وبدأ الموقف الاميركي الجديد بسابقة لا مثيل لها في نهاية شهر رمضان حين دعت السفيرة الاميركية في بريشتينا الى افطار رمضاني تصدّره الشيخ ادريس بلالي رئيس «نقابة الائمة» وأكبر المعارضين للشيخ نعيم في حين لم توجه الدعوة للشيخ نعيم. ولم تمضِ أيام حتى أصدرت الخارجية الاميركية في 29 تموز (يوليو) الفائت «تقرير الحريات الدينية» الذي تناول في القسم الخاص بكوسوفو «التلاعب» الذي حصل لأجل التمديد لولاية ثالثة للشيخ نعيم وتزايد «لغة الكراهية» في الخطاب السلفي لبعض الائمة الذين يحميهم الشيخ نعيم مثل شوكت كراسنيتشي وغيره الذين منعوا بهذه المناسبة من الدخول الى الولاياتالمتحدة. وأصبح من المتوقع مع تشكيل الحكومة الكوسوفية الجديدة والتخلص من «تركة ثاتشي» أن تزداد الضغوط لاعادة تشكيل «الجماعة الاسلامية» وفق قانون جديد يفضي الى انتخاب رئيس جديد يعبّر عن «مرحلة ما بعد ثاتشي» التي أساءت كثيراً الى صورة كوسوفو في الخارج.