ماذا يعني تكريم الفنان شون سكولي في أوروبا الآن؟ درجت عادة خلال السنوات الأخيرة، على تعزيز هوامش التظاهرات التشكيلية العالمية (على غرار سوق «الفناك» السنوي في باريس أو بينالي فينيسيا كل سنتين أو مهرجان نيوكاسيل في ألمانيا) باختيار ظاهرة تفصيلية يتركز حولها الإعلام والنقد لمن يستحق هذا التوقّف المجهري العمودي. تستقطب عادة نجومية مكرسة في مواقع عدة بعضها بحثي جامعي، يمتد زمان عروضها إلى ما بعد انتهاء الحدث الأكبر وبما يتجاوز مدته الخاطفة (الفناك لا يتجاوز لهاث سوقه أربعة أيام مثلاً). تبدأ هذه الإضافة كأصداء أصيلة محايدة، ثم تحتكر الاهتمام والتحليل والطباعة أشهراً. هذا هو شأن اختيار أو بالأحرى الرهان المغامر للغاليري الباريسية النخبوية «لولونغ»، فقد تجاوز طموحها الذكي سهولة البيع لدى بعض الأسماء الدارجة، وفضّلت تقديم الإرلندي شون سكولي الذي لا تخلو لوحاته من وعورة «منمالية» في التسويق. هو من مواليد دبلين عام 1945، أي أن تكريمه كان فرصة للتذكير ببلوغه سن السبعين. يعمل بين نيويورك وبرشلونة وميونيخ، لكن غاليري لولونغ تحتكر حصرياً عرضه وتسويقه من باريس. كانت عرضت جزءاً من المجموعة العام الفائت في الصالة وعرفت بالمرحلة «اليونانية»، وذلك امتحاناً أو ربما جسّ نبض لرد فعل النقاد. أضافت في الجناح الراهن مجموعة «فينيسيات» ومشاهد جسر المدينة المائية (القنال) تناغماً مع موقع البينالي. وأجمع نقاد خلال المهرجان العالمي على أن جناح سكولي كان جوهرة هذه الدورة. نظّمت الغاليري مع المسؤولين معارضه في مواقع ثلاثة متباعدة هي: 1 - فينيسيا - لازو فاليير، يستمر حتى نهاية تشرين الثاني(نوفمبر). 2 - دبلن - إرلندا - ناشيونال غاليري أوف إرلندا، حتى نهاية تشرين الأول (أكتوبر). 3ً - النمسا - نيوهاوس، متحف ليو نينغ. حتى نهاية تشرين الأول. ناهيك عن كثافة توزيع «كتابه» البالغ العناية، والذي ألّفه بنفسه وطبعته غاليري لولونغ العام الفائت. إذا عدنا إلى جوهر موضوعنا أي خصائص تجريده شبه الهندسي، المتمايز عن أي نظير له (لذلك ينفي بحدة التسمية النقدية: الاختزالية أو المنماليزم (على نموذجها كوتش)، فهو يؤكد البعد الروحي - البسيكولوجي الذي يتفوّق على الجانب العقلاني، الذي اقترنت به نزعة «المنمالية»، ويصل إلى اختلاط تجريده ببقايا دلالاته التشخيصية السابقة مثل البوابات وأشجار الصبار وسواها. يعتمد إجمالاً على رصف عناصر شريطية (سواء ملصقة إلى جوار بعضها البعض أم محاكة)، يقع تنظيمها بين النوطات الموسيقية ورقعة الشطرنج. موهبته (حيوية الأداء) تنقذ تكويناته من رتابة رصفها، بخاصة في سيولة سفح الألوان على السطوح المصقولة، لذلك فهو غير قابل للتزوير أو التقليد. تقع أصالته ليس فقط في تفرّده وتمايزه الحسي اللوني، وإنما أيضاً في عمق رهافة حزنه الداخلي المسكون بأزمة هوية شعبه، يروي بحرقة في أكثر من مناسبة رفض جده أن يساق إلى الخدمة العسكرية في الجيش البريطاني (الذي لا يعتبره جيشه الوطني). وتوارى عن الأنظار مختبئاً على وهن تقدّمه في السن في كهف رطب في الطبيعة. ما أن اكتشف ملاذه رجال السلطة حتى حُكم عليه بالرمي بالرصاص، ونُفّذ الحكم مخلفاً فتيات صغيرات إضافة الى طفل رضيع. يقول أن العائلة بأكملها لم تعرف سوى التشرد وضنك العيش بعد هذا الظلم. واضطرت جدته لأن ترضى بأشد الأعمال مهانة تأميناً للقمة عيش الصغار. ليس من السهل قراءة أحزانه من خلال تنسيقاته «الهارمونية»، بل إن الألوان تميل إلى ضجيج المرح منها إلى الاكتئاب. وذلك على رغم أن تراجيديّته تضاعفت مجدداً بموت ابنته الصغيرة. وهكذا خرج من كابوس التشرّد ليتّجه مباشرة إلى صالات عرض نيويورك التي لقيت لوحاته لديها صدى، كان ذلك منذ عام 1970. تنقل في موضوعاته بين التشخيص والتجريد، شارحاً هذا الالتباس والازدواجية في أكثر من مقابلة تلفزيونية، وهو منذ البداية كان مهووساً بضبط العلاقات البنائية وموسيقيتها، ثم استغرق في مختبر لوني سائل، مشبع بالضوء واللمعان على سطوح انزلاقية مصقولة، وهكذا تم التحوّل الطبيعي والتدرجي ومن دون قصد من التشخيص والدلالة إلى التجريد، وذلك في اختصار بسبب الانحياز المتصاعد الى الشروط التشكيلية الأدائية في الإنجاز، حتى أصبحت لغة الإنجاز نفسها الهدف التجريدي المقصود. أحد النقاد قال للفنان أن «الانفعال لديه يصحّح دوماً نزوات العقل»، ولعلّ هذا سبب عدم قبوله بتسمية «منماليزم» بسبب ارتباطها الشديد بالحسابات العقلية والرياضية. يقول سكولي: «منذ أن خطف الموت ابنتي الصغيرة وكنت متعلّقاً بها الى درجة مرضيّة، أصبحت ألواني تشعّ بتبرّج وجداني غبطوي تتقاطع فيها الدمعة مع الابتسامة. نحن مثل اللوحة موشومون بالتجربة المعاشة، بخاصة المريرة المشبعة بالتوجّع الأبدي».