يُعد الشاعر اليمني محمد المسَّاح (1948) أحد شعراء «الموجة الأولى» من روَّاد قصيدة النثر اليمنية من الجيل السبعيني في القرن ال20، ومن القلائل الذين أبقوا على تفاعلهم مع الكتابة والحياة بروح فلاّحٍ بسيط يعرف في أي أرض يلقي بذوره. فهو يواصل حتى الآن كتابة عموده الصحافي اليومي «لحظة يا زمن» في أخيرة صحيفة الثورة، وهي لحظة خارجة عن زمننا المُعتاد، تفصل قراءها عن بؤس الأخبار الرسمية ودوار السياسة، ومساحة موازية تكفي لاقتنائها وحدها ولحفز الجوانب الجمالية. في يومياته تلك يلتقط الشاعر صوراً مكثفة، وبزوايا جديدة وغير مألوفة لحركة الأشياء وثباتها في بيئته، ويقدم مختارات من قراءاته لكتَّاب ومُفكرين وشعراء لا تقل أهمية عن كتاباته الخاصة وهي تتنزه في عقول مفكرين وأدباء من العالم، لتكشف سعة اطلاع الشاعر واستثنائية المثقف: «كان لدي أعمدة صحافية مختلفة، أولها بعنوان: «لقطة من الزاوية» وآخر «لقطة من عين الكاميرا»، استمرا على التوالي أربع سنوات، وبعدها بدأت بكتابة عمود «لحظة يا زمن» عام 1976، كنت أواظب على كتابته ثلاثة أيام في الأسبوع، ثم تحولت إلى كتابته يومياً، وقليلاً ما توقفت بسبب أوضاع سياسية معينة، أو لأسباب شخصية أشعر فيها بأنني استنزفت في الكتابة، وهي فترات قصيرة جداً». في نصه المفتوح يتكئ المسَّاح على لغة شاعرة وتقنيات كتابية متداخلة تتناول الأشياء بأسلوب أدبي مُفكر يصعب تصنيفه: «أعطيتُ اللحظة طابعاً خاصاً ما بين النثر واللغة المباشرة أحياناً، إذ هي بالنسبة لي عبارة عن لقطة ألتقطها وأنا عابر ثم أقوم بتشكيلها وكتابتها بطريقتي، ومضة أو أقصوصة صغيرة جداً، والمُختارات هي ثمرة قراءاتي في الكتب واطلاعي، وأختار منها ما يعبر عن الواقع». بدأت علاقة المسَّاح بالكتابة والشعر في السبعينات، إذ حصل على منحة دراسية 1970 في جمهورية مصر العربية ضمن أول دفعة للثانوية العامة، لدراسة الصحافة في جامعة القاهرة، وهناك تفتح وعيه على الأدب والمسرح والسينما، وكانت مصر في أوج نشاطها الثقافي الذي أثرى الوطن العربي، وتابع عن قُرب شعراء وروائيين، كجمال الغيطاني وبهاء طاهر وعبدالمعطي حجازي وعبدالحكيم طاهر وأمل دنقل. «بدأت كتابة القصيدة النثرية مباشرة من دون المرور على أشكال ما قبل النثر، واحتفى النقاد، أنصار الجديد والغريب على بيئة تقليدية، بما نكتبه - قصيدة نثر - أنا ومجموعة من الشعراء، منهم عبدالرحمن فخري وعبدالودود سيف وعبدالله قاضي وغيرهم، ونشرتُ أولى قصائدي في مجلة «الكلمة» التي كانت تصدر في مدينة الحديدة، ويترأس تحريرها محمد عبدالجبار سلام عميد كلية الإعلام حينها». في حديثه يركز المسَّاح على ذكر أسماء جميع من يعتقد أنهم أدوا دوراً في خدمة الأدب والثقافة، ولم يأخذوا حقهم من الاهتمام «المؤسف أن الأجيال الأخيرة من كتَّاب النثر يسهمون في تجاهل من قبلهم، فلا يقرؤونهم، وهذه مسألة تطرح عليهم بوصفهم جيلاً أصبح يعتمد على نفسه أكثر وفي حال قطيعة مع الكتابة والتواصل مع الرواد. بعضهم يزعم أنهم جيل بلا آباء، كأنهم نزلوا من السماء؛ نوع من الغرور الفارغ، الذي سيكون مصيره النسيان أيضاً». وفي شأن تطور قصيدة النثر اليمنية، يرى المسّاح أن الحدث السياسي في العقود الثلاثة الأخيرة طغى على كل شيء، بما فيها قصيدة النثر، وأصبحت الأحكام غير قطعية في شأن تطورها، إضافة إلى أن تداخل الوسائل العصرية والحديثة حد من التفاعل والانفعال، وهذا التراجع شمل الثقافة وأدواتها عموماً». كانت علاقة الشاعر بالسياسية متذبذبة وتأتي في مرتبة ثانية بعد الأدب، وانتهت بأن أصبح ارتباطه باليسار معنوياً، بعد أن انتمى في البداية إلى الحزب الديموقراطي الثوري الذي كان مقره الجنوب، والذي سيتوحد لاحقاً ومنظمات أخرى ليصبح الحزب الاشتراكي اليمني بشكل اليوم، وفي ظل الصراع السياسي بين الجنوب المتحزِّب والشمال الذي يجرِّم الحزبية تعرَّض لتجربة السجن 1973 ستة أشهر في «القلعة» بصنعاء، كان ذلك بعد عودته من مدينة عدن، وقبلها إزاحته السريعة من منصب رئيس تحرير صحيفة الثورة الرسمية، بسبب مقالاته الناقدة ورفضه التدخل في السياسات التحريرية. إلى أن عاد تدريجياً للعمل عضواً في هيئة التحرير ومشاركاً في تحرير صفحاتها الثقافية، ثم كاتباً يقتسم مع صحيفته تاريخها. وعلى رغم غزارة إنتاج الشاعر، فإن أعماله خارج أغلفة الكتب وفي حاجة إلى جمع، وهو أمر يعتقد أن عليه تركه للزمن: «في كثير من الأحيان أحدث نفسي بأنَّه ليس ضرورياً أن يكون لي كتاب، لكني فكرت في جمعها، وخصوصاً أنَّه لا مبادرات من جانب المؤسسات الأدبية، والنشر يعتمد على الجهد الفردي للشاعر». حالياً، يواصل المسّاح عادته في التنقل بين الريف بلده التربة محافظة تعز التي يعيش فيها، والمدينة صنعاء التي عمل بها، ليقطع مئات الكيلومترات، جيئة وذهاباً، بقلب لا يُحب المُدن: «ليست العلاقة رومانسية بقدر ما هي نوع من البحث عن الملاذ، الريف فيه بساطة. مع العولمة توحشت المدن فدمرت القيم الإنسانية، كالصداقة والأخوة وأشكال الترابط المجتمعي، وتحديداً مدن البلدان المتخلفة التي لم تبن بشكل طبيعي بل على شكل قفزات، ولهذا تجدها تعكس واقع التخلف نفسه، وتصبح الحياة فيها صعبة لا تمنحنا حرية التأمل كما يمنحه الأفق الرحب للقرية. المدن قطَّعت علاقتنا بالطبيعة، لم نعد ننظر إلى القمر والنجوم، في القرية تعيد علاقتك بالطبيعة وتوجد حواراً مع الأشياء».