ذهب الرئيس الأفغاني حميد كارزاي إلى لندن مطمئناً وعاد متفائلاً. اطمأن قبل سفره الى أن مبادرته المتوقعة بالتوصل إلى اتفاق مع حركة «طالبان» وإشراكها في شكل ما في مجلس الشورى باتت تحظى برضى بعض القوى الغربية وإن بتحفظات عدة. اطمأن أيضاً إلى أن اتصالات أجريت بين دول مدعوة لمؤتمر لندن وأفضت إلى ما يشبه الاتفاق على إنشاء صندوق لدعم المبادرة، بمعنى آخر إنشاء صندوق لتمويل عمليات إقناع مقاتلي «طالبان» بالتخلي عن المهمة القتالية. اطمأن إلى أن الغربيين، ويعرف أن غالبيتهم لا تحمل وداً له أو تتعاطف معه، أبدوا استعدادهم للتعامل معه بشروط يتعهد مسبقاً بتنفيذها. عاد كارزاي من لندن متفائلاً لأنه حصل من المجتمع الدولي على شرعية حديثة تصلح ما أفسدته الانتخابات الرئاسية الأخيرة والتحقيقات التي أجريت حول ما جرى فيها من تزوير وما ارتكب من فساد. عاد ومعه وعود بمعونات اقتصادية ضخمة لن تحتكر الدول المانحة عملية الصرف منها. بل صار من حق حكومته أن تصرف منها في حدود نصفها وتترك للدول المانحة الإنفاق من النصف الآخر. كان واضحاً في مؤتمر لندن أن ظروفاً استجدت وتطورات تعمقت أو اتسعت أدت بالدول المتحالفة ضد «طالبان» إلى التغاضي عن مواقف الرأي العام فيها ومشاعر رؤسائها المعترضة على كارزاي وحكومته، والقبول بالتعامل معه بعد أن تعهد بأن يبذل جهداً أكبر لمحاربة الفساد في صفوف حكومته وعائلته. وعلى كل حال لم يكن خافياً خلال الاجتماع، أو في كواليسه، أن الثقة في تعهدات كارزاي تكاد تكون منعدمة. وبدا واضحاً أن أسباباً مهمة كانت وراء القبول بالتعامل معه. فمن ناحية كانت معظم الدول الأوروبية أعربت بطريقة أو بأخرى عن نيتها سحب قواتها أو بعض قواتها من أفغانستان تحت ضغط الرأي العام، بل إن بريطانيا نفسها، وهي الحليف الرئيس لأميركا في هذه الحرب، أبدت شكوكاً حول إمكان استمرار وجود قواتها بأعداد كبيرة في الوقت الذي تتعرض حكومة حزب العمال لاتهامات بسبب اشتراكها في وضع خطة غزو العراق وتنفيذها. وتكشف التحقيقات الجارية حاليا عن أمور وأساليب إدارة تسيء إلى سمعة بريطانيا السياسية داخلياً وخارجياً. تشير استطلاعات الرأي في دول أوروبية عدة إلى أن الرأي العام الأوروبي غير محبذ لمشاركة بلاده في حرب لا يعرف سبباً يدفعه للانضمام إليها، ولا يجد قضية واضحة المعالم يحارب من أجلها ويعرف أن أبناءه هناك يدافعون عن نظام حكم فاسد وناقص الشرعية، هذا بالإضافة إلى أن المسؤولين في كثير من هذه الدول والمتخصصين العسكريين تنازعهم شكوك قوية حول البيانات الرسمية التي تصدر في واشنطن ويعرب من خلالها المسؤولون عن رغبة أميركا في الخروج المبكر من أفغانستان. ويسود أوساطاً إعلامية وأكاديمية في عواصم غربية شعور بالإحباط الممتزج بالسخرية، كما يتضح من عبارات كثيرة ترددت أخيراً ومنها على سبيل المثال «دخلنا أفغانستان لإخراج طالبان من كابول والآن نعيدهم إليها». من ناحية ثانية، يعرف القادة السياسيون في أميركا أن جنودهم في أفغانستان منهكون لأن بعضهم انتقل من العراق إلى أفغانستان من دون أن يحصل على راحة كافية ولأن الظروف المناخية في ساحة الحرب والتصعيد الأخير في عمليات القتال تفوق قدرتهم على التحمل. ومع ذلك، أو بالإضافة إلى ذلك، تسعى القيادة العسكرية الأميركية إلى تهيئة الرأي العام الأميركي لاستقبال احتمال فتح جبهة جديدة في الشرق الأوسط تحت عنوان «حرب الخليج الثالثة». ويتوقع خبراء أن يكون القادة الأميركيون متنبهين إلى أن الوضع الأمثل للنشاط العسكري الأميركي يكمن في التوصل إلى تجميد موقت للحرب في أفغانستان، مع تقديم ترضية مناسبة ل «طالبان»، وقد يكون كافياً للقادة العسكريين الأميركيين أن يحصلوا من «طالبان» على وعد بتخليها عن «القاعدة»، ويا حبذا لو ساهموا في مطاردة أفرادها وإزالة معسكراتها ومنعها من ممارسة أي نشاط داخل أفغانستان أو انطلاقاً منها. ومع ذلك لا يستبعد أن يكون هؤلاء القادة العسكريون مستعدين في الوقت نفسه لوضع غير مثالي، مثل أن يضطروا إلى الاشتباك في ثلاثة حروب في وقت واحد: حرب في العراق إن عادت الأحوال فتدهورت وهي بالفعل على وشك أن يحدث لها ذلك، وحرب في أفغانستان، إن أصرت «طالبان» على شرط خروج القوات المتحالفة من أفغانستان فوراً ورفضت التخلي عن احتضان «القاعدة»، وحرب في إيران، إن نفذت إسرائيل وعيدها واستمر الإيرانيون في تصعيد رفضهم الاستسلام لإرادة الغرب وإسرائيل. من ناحية ثالثة، نجحت «طالبان» خلال الشهور الأخيرة في تجميع قواتها إلى حد أجبر المتخصصين العسكريين على الاعتراف بأن «طالبان» هي الآن في ذروة قوتها، لأنها ضاعفت في السنوات الأخيرة نشاطها ضد قوى الاحتلال الغربي وضد عناصر الفساد في الأقاليم وضد التجاوزات التي تتعرض لها قبائل البشتون. هذه القوة المتنامية هي التي جعلت أحمد رشيد المتخصص في أحوال «طالبان» وأفغانستان يكتب في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» أن الشهور القادمة «تطرح فرصة لا تعوض لإقناع طالبان بأن الوقت الراهن هو الأفضل للتفاوض على تسوية للصراع الأفغاني». وخرج آخرون ينقلون عن «طالبان» استعدادها الدخول في مفاوضات. من هؤلاء العقيد المتقاعد في الاستخبارات الباكستانية أمير طرار الذي يتردد عنه أن الفضل يعود إليه في إنشاء حركة «طالبان»، إذ يقول «إن الملا عمر مستعد ليبدأ مفاوضات سلام... لأنه لا يريد مغامرات بعد أن شبع منها». من ناحية رابعة يبدو أن أطرافاً في الغرب، كما في باكستانوأفغانستان وداخل قيادة «طالبان»، شعرت بأن الوقت مناسب لدعوة أطراف من خارج دائرة القتال المباشر تستطيع أن تمارس نفوذاً على «طالبان» وعلى قيادات في الحكومة الأفغانية. واتجهت الأنظار إلى السعودية للثقة التي تحوز عليها في الشارع الأفغاني بسبب مكانتها الإسلامية والمساعدات المادية التي توفرها. وما لا يدركه كثيرون في الغرب أن العلاقة التقليدية بين «طالبان» والسعودية طرأ عليها طارئ، وهو تدهور العلاقة بين السعودية وتنظيم «القاعدة» من جهة واطراد قوة العلاقة بين «طالبان» و «القاعدة» من جهة أخرى، الأمر الذي ينبئ بأن السعودية لن تساعد «طالبان» مادياً وسياسياً إلا بعد أن تتأكد أنها تخلت عن «القاعدة» وانتقلت في العلاقات معها من التحالف إلى المواجهة. من ناحية خامسة، ولعلها الأهم، يبدو أن القادة العسكريين الباكستانيين غير متحمسين لأي مبادرة تصدر من كارزاي لخبرتهم وتجاربه المديدة معه. ولكنهم يعرفون أيضاً أن مشاركة «طالبان» لكارزاي في حكم كابول رصيد لباكستان لأنه يحول دون زيادة هيمنة الهند على تطورات الأمور في أفغانستان. يعرفون أيضاً أن البديل للمفاوضات والتفاهم مع «طالبان» هو تدهور الأوضاع إلى حرب أهلية بين شتى الأعراق والطوائف الأفغانية، ولذلك قد يكون في مصلحة الأمن القومي الباكستاني تشجيع «طالبان» على الدخول في مفاوضات من موقع قوة حيث ان الحركة تسيطر حالياً على ثلاثة أرباع مساحة أفغانستان. نقل هارون مير، مساعد الزعيم القبلي الراحل احمد شاه مسعود، عن كارزاي قوله في اجتماع حضره بعض زعماء القبائل إن إدارة أوباما تكرهه، وإنه، أي كارزاي، صار يشك في نيات أميركا من التدخل العسكري في أفغانستان. وسواء صدق هارون أو بالغ فيما سمع، يبدو أن كل الأطراف التي حضرت مؤتمر لندن، والأطراف الأفغانية، تعرف تماماً أن لكارزاي دوراً يؤديه في الشهور القادمة ثم يرحل. الخيارات أمام «طالبان» في أفغانستان ليست كثيرة وهي: أن تستمر كحركة مقاومة عسكرية ضد الاحتلال. أن يشارك عناصرها كأفراد في الحكم. أن يتم استدراجها إلى حرب أهلية. إنها الخيارات الثلاثة التي كانت معروضة على حركات المقاومة في أقطار عربية وإسلامية أخرى لتختار ما يناسبها. وبالفعل اختارت. * كاتب مصري