ست عشرة سنة، عاشها الإيطالي قارم قارت في مصر منذ 1999 اكتشف خلالها كثيراً من مفارقات الشخصية المصرية التي تشتبك في شكل لافت مع الشخصية الإيطالية، فما بين حب الحياة بفوضويتها وعشق الفن بجموحه وخفة الظل، جينات تسري في عروق كلا الشعبين. عقب تخرجه في معهد الدراسات الشرقية Istituto Universitario Orientale في نابولي، سعى قارت إلى صقل لغته العربية فسافر إلى مصر، وكان يتحدث الفصحى، وعندما لم يجد تفاعلاً مع الشارع أصر على تعلم العامية المصرية، «لم تساعدني فصحى العربية التي تعلمتها في إيطاليا، فكنت ألجأ إلى الإنكليزية». لم يكن يعلم قارت الذي عمل في مصر مدرساً للإيطالية في إحدى المدارس الشهيرة أنه سيصبح فناناً بصرياً وفوتوغرافياً شهيراً، إذ التقى مصادفة بالمصوّر الكبير درنو ريتشي في إحدى رحلات السفاري لتنشأ بينهما صداقة قوية. وفي أحد معارضه، يشارك قارت صديقه العجوز بما لديه من حس فني فطري، لوحة مزج فيها الفوتوغرافيا مع تقنية الكولاج، لتخرج لوحة مذهلة أعجب بها كل من شاهدها حتى اشتراها أحدهم بمبلغ كبير، ما دعا قارت لتكرار التجربة، خصوصاً مع بروز كثير من اللقطات المثيرة خلال الثورة المصرية، فأقام معارض عدة ناجحة بين مصر وإيطاليا. يعمد قارت لتسجيل مفارقات بصرية متعددة ومواقف حياتية مدهشة قد تكون فجة أحياناً، ومهادنة أحياناً أخرى، إلا أنها تزدهي بتفاصيل هندسية دقيقة منظورياً لجهة الأنماط البنائية والتشكيلية في عمارة الصورة. أدرك قارت كثيراً من المشاكل التي يعيشها المصريون في حياتهم العادية، والتي يصفها بأنها من المشتركات بين شعوب المتوسط، من القمامة إلى التحرش والبطالة والفساد وغيرها وهو ما يناقشه بلوحاته. معاناة المرأة لفته كثيراً العنف الذي تتعرض له المرأة في الشارع والبيت والعمل، وهي معاناة المرأة في كثير من المجتمعات مهما زاد تقدمها حيث تجد نوعاً من التمييز يمارس ضد المرأة إلا أنه أخيراً في مصر أخذ شكل الظاهرة، وهو ما حاول التعبير عنه في معرضه الذي افتتح أخيراً في قصر الإبداع في الإسكندرية. صنف قارت العنف إلى سيكولوجي، وفسيولوجي، وجيولوجي، وأيديولوجي ومنه صورة أم كلثوم والتي كمم صوتها، إلا أن عنف الشارع أو التحرش زاد في شكل لافت أخيراً، وهو ما عبر عنه في كثير من لوحاته، من خلال تكرار شكل الغوريللا الضخم التي تجري خلف سيقان عارية مرة، والتي لا يثنيها حجاب المرأة ولا خمارها ولا حتى نقابها عن ممارسة فعل التحرش مرة أخرى. «القرد هو الإنسان الذي تراجع عن إنسانيته»، وهو ما دعاه إلى استخدام لفظة «انزل» في لوحة أخرى. ويقول: «انزل كلمة انتشرت أثناء الثورة واتخذتها بمعنى آخر حيث يجب أن ننزل إلى الشارع ضد التحرش، كما أن البناء المعماري للكلمة يتسق كثيراً مع البناء التشكيلي للتكوين ويمثل إضافة قيمة لونياً وفكرياً». ويضيف: «التحرش لا علاقة له بشكل المرأة وما ترتديه، التحرش سلوك شخصي ناتج من ضعف ذاتي ونفس مريضة». وعن المعرض، يقول ل «الحياة»: «هو عبارة عن صور فوتوغرافية أعمل لها كولاجاً رقمياً من خلال الفوتوشوب أو أضيف إليها بعض الخامات الأخرى»، لافتاً إلى أنه دائم البحث في المشاكل الداخلية إذ يلغي الحواجز والحدود ليتحدث عن الإنسان وليس المكان. المتابع أعمال قارت يجد أنها تفيض ألواناً وبهجة فيتحول اللون إلى فعل كرنفالي يتحرك في سطوح وملامس وملامح بتقاطعاتها ليعبر عن انفعاله الإنساني اليومي، و يرى أن الألوان مفيدة «لا بد من أن نلون الحياة بألوان جميلة بالزهور والإيجابيات، وأن نضيء على مشاكلنا ولكن يإبجابية، لا بد من أن نبث طاقة إيجابية من السلبيات، أحب أن أجذب البسمة من فوق شفاه المتلقي أول ما يلتقي لوحتي فتضيء عيناه بالبسمة ثم يبدأ التفكير في ما أطرحه من مغزى». ويشعر المتلقي بذاتية الفنان في غالبية لوحاته حيث استخدم جسده أو جزءاً منه ككتلة تشكيلية ديناميكية متكررة تتحرك من لوحة لأخرى، مثل اللوحة التي ارتدى فيها قبعة وقام بتكرارها منظورياً لتتحول طريقاً ولتعبر السيدة المصرية فوق القبعات أي فوق الرؤوس فهي «تستاهل كل احترام وتقدير». ويدعو قارت كل فرد إلى النظر في داخله والاهتمام بشؤونه الذاتية ليضع يده على جوانب ضعفه، فيرتدي «تي شيرت» كتب عليها بلون فوسفوري لافت «خليك في حالك» مع رسم كاريكاتوري لعينين مفتوحتين على آخرهما كناية عن تطفلهما. قارم قارت فنان إيطالي وناقد ومترجم ومصور فوتوغرافي يعيش في القاهرة، يكتب بالعامية المصرية، وينتج أعمالاً فنية تخرج مفرداتها من الشارع المصري، ليشكل حالة فنية ضد التصنيف، حاز الكثير من الجوائز والتقدير على رغم تجربته الفنية القصيرة. ألقى قارت أخيراً محاضرة «التلاعب بالصور» في نادي عدسة للتصوير الفوتوغرافي، شارك فيها العشرات من محترفي التصوير الفوتوغرافي ومبدعيه.