في سنته الأربعين، امتلأت وثائق «المنتدى الاقتصادي الدولي»، بكلمات عن إعادة التفكير بالأمور. ربما كان الصوت الأكثر جهراً، وعلى عادته التي لم تترك المُشاكسة، هو الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي ذهب في دعوته الى إعادة التفكير في التوجّهات الاقتصادية إلى حد الحض على إعادة النظر في النظام الرأسمالي برمته، مع الاستمرار في تبني ذلك النظام. وتلك دعوة جريئة، لا ريب. وذكّرت بصوته الذي ارتفع جهراً بما يُشبه الندم، حين اعترف، في خضم أزمة الغذاء العالمية قبل سنتين، بأن السياسات التي فرضها الغرب على العالم الثالث في الزراعة، خصوصاً المتخصصة، كانت خاطئة. وحينها، لم يرتفع صوت من مسؤولي العالم الثالث الغارق في الفساد والتخلّف، ليسأل الرئيس الفرنسي إن كان مستعداً لتحمّل تبعات هذا الاعتراف، خصوصاً ان تلك السياسات، وبحسب رأي ساركوزي نفسه، حرمت العالم الثالث من زراعات أساسية اعتمدت لآجال طويلة وأمّنت للعالم الثالث مصدراً مهماً للغذاء. من يتحمل مسؤولية الخطأ؟ على من تقع مسؤولية الجوع؟ أسئلة تمكن استعادتها عند التأمل في عبارات إعادة التفكير التي انهمرت من أربعينية دافوس. وما الذي تعنيه ضرورة إعادة النظر التي صدرت عن اجتماع ممثلي الشركات والبنوك الذين تنادوا لنقاش دعوة أوباما لفرض ضريبة على تعاملات البنوك عالمياً، والتي تُذكّر بضريبة توبين، التي رفضتها قوى العولمة في تسعينات القرن الماضي، ثم عادت الى ما يشبهها، بل سمحت بما هو أشد تدخلاً في شؤونها التي وصلت الى حد لامس التأميم المُضمر والرقابة على رواتب المديرين في البنوك والشركات، ومن يتحمل مسؤولية رفض «ضريبة توبين» مع عدم وضع بدائل لها. وأجمعت أربعينية «منتدى دافوس» على ان الأزمة المالية العالمية ساهم فيها انفلات الشركات العملاقة من رقابة الدول. وسار في ذلك دومينيك ستراوس كان رئيس صندوق النقد الدولي، وجان كلود تريشيه رئيس البنك المركزي الأوروبي. ولكن من يتحمّل مسؤولية انقياد الدول الى ضغوط الشركات وإفلاتها من الرقابة؟ من يتحمل مسؤولية إنفلات تلك الشركات، التي صُبّت عليها أموال دافعي الضرائب العاديين كي تنجو من الهلاك؟ وإذ تبين في دافوس أيضاً ان أموال الانقاذ، التي سحبت من أفواه الناس العاديين، يضربها الفساد أيضاً، بحيث انها لم تعط النتائج المأمولة منها! فمن يتحمل مسؤولية إعادة النظر في سياسة الدعم المالي للشركات والبنوك أيضاً؟ وباختصار، لم يترفع «منتدى دافوس»، في سن النضوج الأربعيني، عن الاعتراف بأنه قاد عولمة لم تنظر إلا الى مصالح الشركات؛ وامتلك الشجاعة (أو ربما كانت المسألة شيئاً غير الشجاعة) للدعوة لإعادة النظر في سياسات طالما أيّدها بضراوة. من يتحمل مسؤولية ما سبق التفكير فيه وفعله وفرضه وتحويله الى سياسات تدعمها آليات تبدأ بمنظمة التجارة العالمية ولا تنتهي بصندوق النقد الدولي، كي تبقى «اليد الخفية للسوق» (التعبير الذي كان شهياً في دافوس في سنوات سابقة) هي المسيطر على آليات الاقتصاد في العالم، وإليها ترجع مصائر الناس ومسار حياتها. لقد روّج ل «اليد الخفية للسوق»، وقد تبين أنها يد يجب ان تراقب وتفرض عليها قيود، فمن يتحمل مسؤولية ما حطّمته عالمياً، وخصوصاً في بلدان العالم الثالث حيث لا رديف لخطأ من هذا النوع سوى استمرار التخلف والفقر والتخبط في التنمية وتآكل الدول وانسداد أفق المستقبل؟