«المقدّس والمدنّس» عنوان بالغ الجاذبية لأمسية اوبرالية احيتها السوبرانو اللبنانية – العالمية سمر سلامة مساء أول من أمس، ضمن مهرجانات جبيل. لم يتوقف الجذب عند العنوان بل تعداه الى اخراج احتفالي احتفى بالجمهور على باب كنيسة قديمة في وسط المدينة الدهرية. هناك على منصة عالية وقف الكوميدي المبدع طلال الجردي معتمراً قبعة عالية، مرتدياً سترة سموكينغ، وفي يده عصا ساحر، يرحّب بالوافدين واعداً اياهم بلقاء تاريخي بين شاطئي لبنانوايطاليا. لقاء الدموع والابتسامات في عملين متباينين لجوفاني بيرغوليزي. وما هي سوى دقائق حتى عدنا الى القرن الثامن عشر لنشهد في الجزء الأول من الأمسية مرثية درامية كتبها بيرغوليزي باللاتينية وأدّتها سمر مع المنشد الايطالي فابريتسي دي فالكو، عنوانها «الأم التي تقف». انها الأم الكونية الواقفة حيال عذاب بكرها وموته على خشبة الظلم في الظلام. «هل يستطيع القلب البشري ان ينأى/ عن المشاركة في المها/ آه ايتها الأم/ يا نبع المحبة/ المسي نفسي من عليائك/ دعي قلبي ينضم الى قلبك/ دعيني احس معك/ دعي روحي تشتعل وتذوب...». في اللباس الاسود محاطَين بالشموع والقناطر الشاهقة، انشد الثنائي سمر- فابريسيو فصول المرثاة، مع مواكبة موسيقية مطعّمة بناي وقانون وعود ودف. وجاء أداؤهما المتقن مشحوناً بعاطفة أثيرية محيّدة عن مبالغات الاوبرا المعتادة. انها بكائية أقرب الى الصلاة منها الى المراثي المتفجعة، جعلت الجمهور يخفت وينضوي في الحداد الأمومي العميق. ثم انفتحت الأبواب على الجزء الثاني من الأمسية: تفضلوا الى الحديقة المجاورة، يماشيكم طلال الجردي وشلة من الراقصات والراقصين، يتوسطهم باصق نار، ومهرج رفع ساقيه على ساقين مستعارتين، وبهلوان يطيّر اربعاً الى خمس كرات في الهواء الرطب. وفي الحديقة اقيم مسرح كامل التجهيز لاستقبال ملهاة اوبرالية عنوانها «الخادمة السيدة» كتبها بيرغوليزي عام 1733 وكانت جزءاً من محور خلافي بين محبذي الاوبرا الفرنسية الناشئة وبين المتحمسين للملهاة الاوبرالية على الطريقة الايطالية. تروي «الخادمة السيدة» قصة كسول من النبلاء يدعى اومبرتو، يستيقظ من نومه متذمراً لأن وجبته المفضلة من الشوكولاتة الساخن تأخرت في الوصول الى سريره: «ثلاثة امور بمقدورها ان تقتلك:/ ان تستلقي في سريرك غير نائم/ ان تقوم بواجبك ولا تسعد احداً/ ان تنتظر ولا يأتي ما تنتظره» يقول اومبرتو متمغطاً في وسائده وشراشفه وفي يده جرس يقرعه بلا جواب. «ايّ مسخرة هذه / منذ ثلاث ساعات انتظر/ وخادمتي لا تأبه/ بأن تجلب لي الشوكولاتة الساخنة/ وانا على عجلة من أمري/ آه نفذ صبري/ لعل هذا جزاء معاملتي الطيبة لها/ سيربينا، سيربينا، سوف تأتين غداً! يلعب دور اومبرتو التينور فينسنت فانتيغن، وتتألق سمر سلامة في دور سيربينا، فيما يتلبس طلال الجردي دور الخادم الأخرس، فيسبوني (علماً ان المخرجة ديانا إلييسكو سمحت له ببعض عبارات عربية جاءت بمثابة مفاتيح سهلت دخول الجمهور الى الحكاية). والحكاية ان سيربينا التي يقول اومبيرتو انه ربّاها مذ كانت طفلة واعتبرها أعز من ابنته، صارت تتنمّر وتدعي انها سيدة الدار، السيدة الوحيدة، السيدة المطلقة! عبر مشاهد حوارية متدحرجة في كل الاتجاهات تسلك سيربينا كل السبل العاطفية والاحتيالية لبلوغ هدفها، بعدما جعلت من الخادم الاخرس، فيسبوني، بيدقاً في معركة غير قابلة للخسارة، حيث يمتزج الفودفيل (مسرح المعاكسات المجانية) باللهو المتحاذق والقفشات الضاحكة. أي حيوية خلاقة تختزنها سمر سلامة في أدائها الهازج، المتماسك، الفعال؟ وكيف خرجت كالشعرة من عجينة الى دور انثوي «مبتذل» إثر وقوفها الدرامي الشاهق في جلد الثكلى المكلومة؟ لعلها الموهبة وقد انعجنت في التجربة وانخبزت في مصهر الممارسة، فسمر تعيش في ايطاليا وتعمل هناك مع مخرجين ومنشدين معروفين في طليعة المشهد الاوبرالي، ولكن، على رغم احتشاد اجندتها بمواعيد حول العالم، يبدو انها تصر على المجيء الى لبنان مرة كل سنة على الأقل. بالتصفيق الحار ودّعها الجمهور ولسان حاله يصيح: لا تغيبي عن ليالينا أيتها الشمس الصغيرة!