{ شعار «التغيير» الذي أطلقه الرئيس الأميركي باراك أوباما حين كان لا يزال يخوض معركته الانتخابية لم يطل السياسة الداخلية فحسب وإنما تخطاها إلى السياسة الخارجية في شكل أساسي، لا سيما تلك التي تربط الولاياتالمتحدة بالشرق الأوسط. واستهل الرئيس الجديد عهده بأكثر من رسالة وجهها إلى العالمين العربي والإسلامي، وإلى الجالية المسلمة داخل أميركا نفسها. فكان أول اتصال أجراه كرئيس دولة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وأول مقابلة تلفزيونية أجراها كانت من نصيب قناة عربية هي «العربية» لتنقلها عنها لاحقاً أكثر من 200 محطة محلية وعالمية. وعبّر أوباما من خلال تلك الشاشة عن طريقة إدارته في الحكم وموقفه من قضايا المنطقة محاولاً مد جسور كان هدمها سلفه جورج بوش مع العالمين العربي والإسلامي. وفي رمزية هذا الخيار، بعث أوباما برسالة واضحة: القطع الواضح والصريح مع سياسات الإدارة الجمهورية السابقة التي جعلت من «الحرب على الإرهاب» عنواناً عريضاً لكل القرارات المتعلقة بالسياسة الداخلية والخارجية على السواء، وذريعة للحرب على العراق ولانتهاك حقوق الإنسان في معتقل غوانتانامو وخرق الدستور داخل الأراضي الأميركية نفسها. وخلال الحملة الانتخابية عبر كثيرون عن مخاوفهم من أن «يتساهل» أوباما، في حال فوزه، مع قضايا الأمن القومي والإرهاب و «ألاّ يحمي البلاد كما يجب» من هجمات جديدة محتملة كما فعل سلفه. فصحيح أن الإدارة السابقة حولت البلاد «محمية أمنية» (بحسناتها وسيئاتها) إلا أنها عملياً منعت وقوع اعتداءات أخرى طوال الفترة الممتدة بين11 أيلول (سبتمبر) 2001 و4 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008 وهو حساب لا يستهان به بالنسبة إلى الأميركيين. وفي الوقت الذي يعتقد كثيرون بأن بريق «القاعدة» خف لأن الجسم التنظيمي تضخم فأصابه وهن وتفكك لا سيما وأن قادته مختبئون عاجزون عن الظهور للعيان، إلا أن التهديد الفعلي يبدأ في كون تلك الهيكلية الواضحة تحولت كيانات زئبقية صغيرة، تتمتع بهامش واسع من الاستقلالية والأجندات المحلية، ويكفيها أن تتبع تطبيقياً تعاليم المؤسسة الأم، مع إمكانية اعتماد رموز وقادة ميدانيين «محليي الصنع» كما جرى في عدد من العواصم الأوروبية. فإذا كان صحيحاً أن تنظيم «القاعدة» اليوم ليس حزباً له مقر بعنوان معروف ويحمل مناصروه بطاقات انتساب، وتلك نقطة ضعف فيه، إلا أن قوته وقدرته على التهديد مستمدة من ذلك الضعف نفسه إذ نجح إلى حد بعيد في أن يتحول إلى «سوفتوير» يمكن لأي مجموعة صغيرة بخبرات محدودة، وفي أي بقعة جغرافية «تحميله» واعتماد أسلوبه في تنفيذ المهمات، التي بات يمكن تفصيلها على قياس حاجات داخلية. من هنا وضعت الحكومات الغربية وخصوصاً إدراة بوش جالياتها المسلمة تحت المجهر. فطبقت إجراءات وقوانين مجحفة عليهم من قانون «باتريوت آكت» إلى لائحة الأسماء الممنوعة من الهجرة، وصولاً إلى ترحيل مئات الأشخاص المنتهية أوراق إقامتهم، واعتقال آخرين بتهمة انهم «مقاتلون اعداء»، تحسباً لأن يظهر بينهم من يشبه مجايليهم الأوروبيين. لكن تلك السياسات الاستباقية والحمائية نفسها، استخدمتها «القاعدة» ذريعة للتجنيد في معركتها ضد الغرب وعلى رأسه أميركا. طبعاً الذريعة تبدأ بفلسطين مروراً بأفغانستان والعراق وصولاً إلى تطبيق صارخ لسياسة الكيل بمكيالين. فأميركا من جهة تبشر بالديموقراطية وتخوض حروباً لأجلها، ومن جهة تدعم حكومات في الشرق الأوسط لأن ضحايا غياب الديموقراطية فيها ليسوا سوى «إسلاميين»! وبهذا المعنى يصبح تفجير أي مطعم تابع لشركة «ماكدونالد» في أي بقعة منسية من العالم أو تنفيذ عملية انتحارية في مترو الأنفاق في عاصمة أوروبية كأنه رد على سياسات أميركا ودحض لادعاءاتها. فحتى تلك الديموقراطية التي تتغنى بها واشنطن غير مرغوبة في أوساطهم، وهم لا يتوانون عن وصفها ب «البدعة» لأنهم ببساطة لا يبحثون عنها. فهم في «جهادهم» ساعون للعدالة وليس للديموقراطية. هي دوامة، النتيجة فيها سبب. لكن إذا كانت السياسات الأميركية فعلاً أحد مصادر وحي «المجاهدين» والانتحاريين فلماذا لم تتعرض أميركا نفسها لأكثر من 11 أيلول واحد؟ ولماذا لم يتمكن تنظيم «القاعدة» من تجنيد عناصر له بين الجيلين الثاني والثالث من الجاليات المسلمة في أميركا على غرار ما فعل في أوروبا؟ هل هي فقط اختلافات في البيئة المهاجرة أم ان اسباباً إضافية أدت إلى النأي بأميركا عن مرمى سهام الإرهابيين؟ ومن هم هؤلاء المسلمون وكيف يعيشون؟ تنشر «الحياة» سلسلة تحقيقات تتناول الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين وإمكانية ظهور «جهاديين» بينهم، عبر رصد نماذج من تلك البيئة في واشنطن وفيرجينيا ونيويورك. كذلك تكشف السلسلة الملف القضائي ل «آخر مقاتل عدو» التقت «الحياة» محاميه وحصلت على نسخة عن ملفه الذي لم يجد طريقه إلى القضاء منذ اعتقاله قبل 6 سنوات. هنا حلقة أولى. إنه مساء نهاية أسبوع قارس ومطعم «اليمن السعيد» في أحد شوارع بروكلين في نيويورك يضج بالزبائن. صاحب المطعم أحمد، يساعد عماله ويركض بين الطاولات يلبي الطلبات من شوربة ساخنة يقدمها على حساب المحل، إلى أطباق تقليدية متنوعة يختتمها غالباً ب «فتة» العسل مع الموز والسمن فوق فتافيت الخبز المحمص. الزبائن غالبيتهم من أصل يمني، بينهم سيدة أو اثنتان بالحجاب رافقت الزوج والأولاد، فيما البقية شبان ورجال وبعض السياح. المطعم وعلى رغم صيغته الشعبية المحلية التي تحمل الزائر إلى أزقة صنعاء وحاراتها يحمل طابعاً «كوزموبوليتياً» لا يمكن تجاهله. فوجوه الاشخاص وأزياؤهم واللغات المحكية وحتى اللكنات الأميركية المختلفة كلها تجعل من ذلك الاختلاط نموذجاً نيويوركياً مصغراً ومكاناً مثالياً للباحث عن الأوجه الأخرى لنيويورك، تلك البعيدة عن تايم سكوير وتمثال الحرية. ابراهيم زبون قديم في المطعم، يأتي كل يوم تقريباً وبات له ركنه وأطباقه المفضلة. يحييه احمد تحية أبناء الحي ويستقبله برغيف خبز ساخن. ثمة ود قديم يربط الشابين اللذين نشأا في هذه الشوارع وقد جاء إليها آباؤهم وأجدادهم بحثاً عن حياة أفضل، أو ربما عن مجرد حياة. كان والد إبراهيم يصطحبه إلى المطعم حين كان ولداً صغيراً يساعده في ال «سوبر ماركت» بعد دوام المدرسة وأيام العطل، فيجلس الوالدان يتحادثان بشؤون البلاد، فيما يلعب الصغيران بعد وجبة غداء دسمة. قبالة «اليمن السعيد» على الناصية الأخرى من الشارع، تبدو لافتة «مطعم الوحدة» اليمني مضاءة بالنيون الملون. وقربها «مخبز دمشق»، و «حلويات طرابلس»، ومسجد صغير مضاء يصعد إليه بدرج حلزوني عبر مدخل أحد المباني. لوهلة قد يشعر المرء أنه في أي حارة في عاصمة عربية وينسى كلياً أنه في نيويورك! يشير ابراهيم إلى محل ضخم ويقول «كان هذا المحل لأبي وأنا ولدت في المنزل الذي فوقه. سكنا في هذا الحي سنوات طويلة إلى أن كبرت عائلتنا وباع ابي المحل والمنزل وانتقلنا إلى حي آخر ثم انتقلت أنا للسكن وحدي». هكذا هي نيويورك. حي يصعد وحي يهبط وعائلات ترحل ووجوه تتبدل. والمهاجرون العرب لا يشذون عن هذه القاعدة يتنقلون عبر الأحياء بحسب تموجات السوق وأسعار العقارات من دون ادعاءات أو أحكام مسبقة. فحتى جامع مقاطعة «باترسون» مثلاً، في نيوجرسي، كان كنيساً يهودياً وسط حي يهودي. طغت على المنطقة في السنوات الأخيرة الهجرة العربية خصوصاً من فلسطينيين وأردنيين وانخفضت الأسعار فكانت مناسبة لشراء العقار وتحويله مسجداً. ثم توسعت لاحقاً القاعات من حوله لتكون صفوفاً تدرس فيها اللغة العربية ويحفظ القرآن، فيما خصت النساء بجناح خاص لنشاطاتهن. اليوم يعيش ابراهيم وحده في ستوديو صغير كأي شاب أميركي من عمره. يعمل مساعداً في شركة قانونية للدفاع عن المعتقلين في «غوانتانامو». صار يعرفهم ويعرف قصصهم عبر ملفاتهم وبعضهم من أًصل يمني. لا يميز البريء من المذنب بينهم، لكن ما يهمه من المسألة برمتها أن «معتقل العار»، كما يسميه، مخالف للدستور الأميركي ولكل ما تعارفت عليه قوانين البلاد، والدفاع عن المعتقلين هو دفاع عن معنى أميركا وليس بالضرورة عنهم كأشخاص فتلك كما يقول «مهمة المحاكم المدنية». وفيما بدأ ابراهيم يتحدث بحماسة عن عمله وعائلته دخل «اليمن السعيد» شاب طويل أشقر ملتح، حليق الشوارب. لوح له ابراهيم من بعيد بيده وهمس «وصل اليهودي» فيما الشاب رفع صوته قليلاً وهو يقول «السلام عليكم» بعربية متعثرة وجلس في زاوية بدت كأنها له. الجائع الجديد الذي انضم إلى موائد أحمد يهودي اعتنق الإسلام وأطلق على نفسه اسماً عربياً كغالبية المنضمين الجدد. بعد فترة من تردده على المطعم وبناء صداقات فيه وسماعه قصصاً وروايات عن اليمن قررالسفر وزيارة ذاك البلد البعيد. لكن فور عودته أوقفته الشرطة الأميركية بضعة أسابيع وخضع للتحقيق بتهمة التدرب في معسكرات «القاعدة» لا سيما وأنه مكث فترة هناك ودرس العربية وتردد على ما يبدو على «جامعة الإيمان» التي يديرها الشيخ الزنداني. لكن أفرج عنه لاحقاً لعدم كفاية الأدلة ضده. «والله أعلم» يقول إبراهيم الذي لا يحمل ذمته تهمة من هذا العيار. ثم يضيف «لم نر منه أي تصرف سيئ هنا. هو شخص هادئ جداً منطوٍ على نفسه نراه في المطعم وفي المسجد يصلي خصوصاً أيام الجمعة». ويضيف إبراهيم بصوت خفيض «يغتاظ جداً عندما نمازحه ونناديه باليهودي، فهو الآن مسلم، ويأخذ المسألة على محمل الجد وأحياناً أكثر من اللزوم... لكن في النهاية ليس شأننا أن نراقبه». لا يشذ ابراهيم كثيراً عن أبناء الجيل الثاني من المهاجرين المسلمين إلى الولاياتالمتحدة الذين نشأوا في عائلات من الطبقة الوسطى تبحث عن مستقبل أفضل لأبنائها. فالآباء الذين جاؤوا حاملين مهناً صغيرة أو شهادات علمية عملوا بمداخيل تفوق أحياناً متوسط دخل الفرد الأميركي العادي، فشكلوا أرضية صلبة لأبنائهم الذين اندمجوا اقتصادياً وانخرطوا في النظام أكثر مما فعل أهلهم، ووجدوا لنفسهم حيزاً من دون أن يتخلوا بالضرورة عن مكونات ثقافتهم الأم وشعائر دينهم. أما من فعل منهم ذلك فبقرار شخصي وليس كشرط من شروط الانخراط في البيئة الأوسع. فالقيم الاجتماعية السائدة في هذه البلاد محافظة إلى حد بعيد والتدين فيه سمة مقبولة اجتماعياً سواء مورست شعائره في الكنيسة أو الكنيس أو المسجد أو أي دار عبادة. لذا لا يشعر إبراهيم أو أي ابن مهاجر مثله أن عليه التخلي عن دينه واعتناق العلمانية كمدخل إلى المواطنة الكاملة أو ليصبح جزءاً من النسيج الاجتماعي كما هي الحال في أوروبا. كما أن الاندماج نفسه لا يفرض عليه كجزء من خطة حكومية وبرامج خاصة ومناهج تضعها وزارات مختصة ويتعين عليه هو أن يطبقها بحذافيرها. هنا يمنع حتى السؤال عن الدين خلال تقديم أوراق الهجرة أو تسجيله على الأوراق الثبوتية. ومن حسنات هذه المسألة أنها لا تفرق بين الأفراد على أساس دينهم، ولا تمارس ضدهم أي حكم مسبق، نظرياً على الأقل. إلا أنها في الوقت نفسه تجعل من إمكانية التحقق من عدد المسلمين الأميركيين مثلاً، مهمة مستحيلة. فبعض المصادر الحكومية يقول إن عددهم نحو مليونين ونصف المليون ومصادر الجمعيات الأهلية وأئمة المساجد تذهب إلى تقديرهم بنحو 7 ملايين ونصف المليون. الفارق شاسع وليس من طريقة لإثباته أو نفيه. ولفترات طويلة بقي طاغياًَ على الانتماء بعد الجنسية الأميركية البلد الام أو البقعة الجغرافية. كأن يقال هؤلاء أميركيون لاتينيون، أو آسيويون أو شرق أوسطيون. الهوية الدينية الإسلامية طارئة على غيرها ولم تتداول كتعريف موحد عن المجموعة إلا بعد هجمات 11 أيلول فجاءت كمؤشر عن الانتماء يتجاوز الجغرافيا الى المعتقد الديني. وتلك الهوية الدينية المستجدة لا تشمل الأميركيين الأفارقة مثلاً وإن كانوا مسلمين، ذاك أن هويتهم الراجحة هي العرق وليس الدين. وبهذه المعادلة يصبح التعريف مطاطاً، فالنسبة إلى «الشرق الأوسط» تعني بعد 11 أيلول، النسبة إلى الدين أيضاً على رغم الإدراك المسبق بأن أفواج المهاجرين الاولى من الشرق الاوسط هي غالباً هجرة مسيحية. وكان من نتائج ذلك التعريف أن صار التوجه الرسمي إلى هؤلاء يتم أولاً انطلاقاً من هويتهم الدينية، وهم إذ ذاك راحوا يتصرفون أيضاً بناء عليها، من مبدأ انه «إن كنتم تعاملوننا كمسلمين قبل أن نكون مواطنين فسنتصرف نحن أيضاً كمسلمين». فكثرت في وسائل الإعلام مصطلحات تخص «الجاليات المسلمة»، واعتمدت بعض المطاعم وأبرزها ماكدونالد «وجبات حلال» بين أطباقها. حتى لوائح الإعلانات في المطار مثلاً تعرض «وجوهاً من أميركاً» ترحب بالمسافرين، استجد عليها شابات محجبات. وفي بعض الدوائر الرسمية ومراكز الشرطة علقت صور كبيرة للتعريف «بأشكال غطاء الرأس الشائعة بين المسلمين الأميركيين». ومن أسباب ذلك أن غالبية مظاهر الإسلام الذي تشهده أميركا اليوم جاءها مع الشرق أوسطيين والخليجيين لا سيما بناء الجوامع والمساجد السلفية في شكل أساسي ومدارس التعليم الديني والجمعيات الخيرية التي شهدت فورة غير مسبوقة في أواسط الثمانينات. فمثلاً تشير دراسة حديثة عن الجوامع في أميركا على مستوى الولايات كلها، أجراها معهد «بيو» أن 70 في المئة من أئمة المساجد في أميركا «سلفيون» و21 في المئة «متشددون». أما الإسلام كدين فليس جديداً على الولاياتالمتحدة ولم تحمله إليها الموجة الأخيرة من المهاجرين الشرق أوسطيين، بل هو موجود مع الأفارقة الذين يعتبرون أنفسهم المسلمين الأوائل في هذه القارة وطبعوا الدين بطابعهم. فهنا غالباً ما ترى في الشارع امرأة إفريقية ترتدي حجاب الرأس لكنها في المقابل تكشف عن ذراعيها صيفاً من دون أن يحسب ذلك نقص في دينها. أو مثلاً في احتفال لبلدية نيويورك بمناسبة عيد الفطر، الذي طالب المشاركون فيه جعله عيداً رسمياً ويوم عطلة أسوة ببقية الأعياد، قدمت مجموعة من الشبان والشابات أناشيد دينية ترافقت بتصفيق اليدين وحركات شبه راقصة تشبه تلك التي تؤديها فرق الترتيل في كنائس الأفارقة. والواقع أن المسلمين الأفارقة خاضوا «جهادهم» الاجتماعي وناضلوا لنيل حقوقهم المدنية كمجموعة اثنية بالدرجة الأولى، ولا ينظرون إلى المسلمين العرب بصفتهم على صراط أكثر استقامة من صراطهم. وإلى ذلك فإن الجيل الأول من المهاجرين العرب المسلمين لم يكن شديد التدين والالتزام بعكس الأبناء الذين شهدت نشأتهم يقظة الهوية الدينية فانكب بعضهم على التعرف على دينه في مرحلة لاحقة من عمر المراهقة، وانخرط في دروس مسائية لحفظ القرآن وتعلم اللغة العربية، وابراهيم مثلاً واحد منهم. فهو بدأ منذ سنوات قليلة يواظب على الصوم والصلاة وزيارة اليمن حين يتسنى له ذلك. وبحسب دراسة لمركز «بيو» أجريت في 2007 تبين أن 45 في المئة من المسلمين بين 18 و35 عاماً باتوا يصلون 5 مرات في اليوم في الوقت الذي كانت دراسة صادرة في عام 2000 عن جامعة هارفرد كشفت أن ثلث المسلمين لا «ينتمون» إلى مسجد محدد ولا يصلون عموماً وإن فعلوا ففي المنزل. كذلك كشفت الدراسة نفسها أن العرب يحتلون المرتبة الثالثة بين المسلمين الذين يترددون إلى الجوامع بانتظام، يسبقهم الأفارقة والمتحدرون من جنوب آسيا (الباكستانيين والهنود والبنغال والأفغان). تلك الأرقام ليست من دون دلالة. فهي مؤشر أول الى أن المسلمين في أميركا يشبهون أميركا نفسها. هم متنوعون ومختلفون ومتشابهون في آن. هنا فعلاً لا فضل لعربي على أعجمي منهم. فكلهم مسلمون، وكلهم أميركيون. ونظراً إلى أن الدولة الأميركية ليست راعية لأبنائها، ولا تحتضن المهاجر فتؤمن له دخلاً شهرياً وخدمات اجتماعية من دون مقابل، ليبقى عاطلاً عن العمل طالما طاب له ذلك، وهو يضطر منذ لحظة وصوله إلى الدخول في دورة الإنتاج. فإن لم يعمل مات جوعاً. وهو، ما إن يعمل حتى يضطر لإيجاد أرضية مشتركة بينه وبين غيره من الأقوام فيأتي اندماجه عفوياً تلقائياً بفعل التبادل البشري. إنه اندماج اقتصادي بالدرجة الأولى ينتج عنه لاحقاً مع الأجيال الثانية والثالثة اندماج اجتماعي لكنه حتى الآن ليس سياسياً. فالمهاجرون المسلمون لم يثبتوا حتى الآن وعلى رغم مشاركتهم القوية في الانتخابات الأخيرة أنهم صوت انتخابي يحسب له حساب كالصوت اليهودي أو الصوت اللاتيني مثلاً. لكنهم في المقابل، فاعلون ومشاركون على المستويات المحلية. فهم حاضرون بقوة في البلديات ولجان المناطق والأحياء والمدارس حيث كلمتهم مسموعة وأحياناً راجحة. وبهذا المعنى هم لا يشعرون بتهميش اجتماعي، لأنهم يساهمون مباشرة في القرارات التي تتعلق بحياتهم اليومية. وإذا كان الحي اليمني في بروكلين معروفاً باسمه هذا إلا أنه لا يشبه تلك الصورة النمطية عن «الغيتوهات» المغلقة في بريطانيا أو فرنسا، حيث يتجمع المهاجرون جيلاً بعد جيل حتى يكاد بعضهم يفقد الحاجة لتعلم اللغة المحلية. وإن كانت محال المهاجرين في ذلك الحي ومتاجرهم تحمل لافتات بأحرف عربية، فلأنهم كغيرهم من المهاجرين جاءت تجربتهم الأميركية تراكمية أضيفت إلى سابقاتها ولم تنقطع عنها أو تنفها. فصحيح أن المساجد مثلاً مقسمة بحسب المجموعات الاثنية إلا أن المناسبات العامة تجمع مسلمين من كافة المشارب والألوان، فيصبح المسجد والقاعات المحيطة به جامعاً بالمعنى الحرفي للكلمة. فتلتقي المجموعات العرقية بعضها ببعض من أفريقيين وآسيويين وعرب والبان فتختلط الثقافات ومعها الممارسات المختلفة للدين نفسه. * التحقيق جزء من ورقة بحث أُعِدت بمنحة زمالة من معهد «وودرو ويلسون للباحثين الدوليين» في واشنطن