في وجه التعقيدات والدوائر المفرغة التي يدور فيها لبنان، وعنوانها العريض تعطيل مؤسسات الدولة، بعد أزمة الحكومة التي تلت أزمة الرئاسة، ناهيك عن المشكلات الأخرى التي تهز مضجع اللبنانيين، من السلاح غير الشرعي إلى انعكاسات الأزمة السورية والتوتر داخل المخيمات الفلسطينية، يتراءى للمشاهد أفق مسدود يرخي بظلاله السود على واقع يزداد رداءة يوماً بعد يوم. يصعب الجزم بأن لبنان استطاع، عبر تفلته من النيران المندلعة في المنطقة، إبعاد شبح الحرب. فالحرب الأهلية لم تنته بل اتخذت أشكالاً أخرى غير عسكرية وهي حرب كامنة تتحكم بكل مفاصل الحياة في لبنان. تختلف أسباب غياب الحرب بمعناها التقليدي وعدم انتقال النار السورية الى لبنان، مع تعدد العوامل الدولية والمحلية، فما من سبب واحد وجيه ومنطقي لذلك. لقد عانى اللبنانيون سنوات طويلة من حرب أهلية شلّعت أطراف الوطن حيث الجراح لم تلتئم بعد، وهم بالتالي يترددون بل يخشون دخول آتون النار مجدداً. وعلى صعيد المنطقة، إن كل الجهات المعنية بالنزاع في سورية قد لا تحتمل حالياً أعباء حرب أخرى ، لا على الصعيد الأمني ولا على الصعيد اللوجستي، كما ان أطراف النزاع في سورية أو أقله بعضهم بحاجة الى ساحة خلفية هادئة نسبياً. لكن هذا التوازن الهش مهدد في كل لحظة، فخطاب السيد حسن نصر الله الأخير يؤكد الثبات على المواقف القديمة، والمزيد من الغوص في النفق السوري، خصوصاً مع انتقال أعلى المسؤولين العسكريين في الحزب إلى الداخل السوري لإدارة الأزمة، ومع تأكيد الرئيس بشار الأسد في خطابه الأخير على الحاجة إلى «حزب الله» في سورية. يُقال في الأوساط المقربة من «حزب الله» أن 7 أيار سياسي آخر قادم لا محال. البعض يضع هذا الكلام في خانة التهويل والبعض الآخر يعتبر أن هذه المواجهة حتمية، أكان نظام الأسد سيسقط أم سيبقى. فإذا سقط، سيكون الهدف من هذه المواجهة تثبيت المواقف، وإذا بقي، ستكون مناسبة لعرض العضلات، خصوصاً في ضوء تداعيات الإتفاق النووي الأخير الذي اُبرِم مع إيران والذي سيؤدي، مع رفع العقوبات، إلى زيادة منسوب قوة شركاء إيران وحلفائها. أمام هذه الأزمات، تعلو حالياً أصوات تنادي بمحاولات للخروج من عنق الزجاجة: هناك فريق لا يرغب بإيجاد حل لهذه الصعوبات ويريد إبقاء الحال داخل الحكومة كما هي، لزيادة التعفّن في هيكل الدولة، وفريق آخر ينادي بالفيديرالية واللامركزية، في تصريحات تارة مبطنة وطوراً واضحة وصريحة، وفريق ثالث يتحدث عن مؤتمر تأسيسي قد يكون برأي البعض في هذه المرحلة دخولاً في المجهول. فهل يمكن التوصل إلى نظام جديد في وجود طرف واحد يتمتع بفائض من القوة، يهيمن على معظم القرارات، ويعرقل انتخاب رئيس للجمهورية؟ ففي حديث السيد نصرالله الأخير أيضاً اعترافٌ بأنه لم يعد يضطلع بدور الوسيط بل بدور الطرف، مؤكّداً بالتالي الإنطباع الذي كان سائداً أصلاً لدى اللبنانيين: أليس كل عناد الجنرال ميشال عون في ملف الرئاسة إلا نتيجة دعم «حزب الله» له؟ لا شك في أن فائض القوة هذا سيؤدي إلى عدم مراعاة توازن القوى بين مختلف الأفرقاء وإلى تشريع فائض القوة العسكري وبالتالي السياسي هذا، بلغة قانونية ودستورية ما يعني تغيير وجه البلد. والطُعم المُستخدم من قبل الفريق الداعي إلى هذا التغيير هو شعار اللامركزية الموسعة واستقلالية المناطق، من دون معرفة الهامش الحقيقي لهذه الاستقلالية. وكيف لهذا النظام المُقترح أن يحلّ المشكلات الاساسية الخلافية في الوطن إذا بقي الخلاف قائماً على سياستي الدفاع والخارجية، وهما بيت القصيد وراء الحروب اللبنانية؟ هل يمكن التوصل إلى لامركزية ناجحة وإلى جزر آمنة إذا كان الخلل قائماً في الإدارة المركزية؟ المشهد المحلي والإقليمي المعقد ينذر بتحوّل لبنان، وكما ذكر تقرير مجموعة الأزمات الدولية، الى دولة فاشلة. ولكن هناك خشية أكبر يتجاهلها الجميع مع كلّ أسف، وهي دخول لبنان مرحلة الفشل الاجتماعي. إن حس المواطنة في سبات عميق، وليس الاستماع إلى المعترضين على مكبات النفايات اليوم إلا خير دليل على ان اللبنانيين أضاعوا مفهوم الدولة وبات خطابهم يعبّر عن الإنتماء إلى الطائفة، والمنطقة، والقرية، والشارع والزقاق، من دون الأخذ في الاعتبار مصلحة الوطن. ان أزمة النفايات ليست الأولى التي أشارت الى هذا التفكك في المجتمع بل ان ردود فعل اللبنانيين على المشكلات أو الأزمات أو النزاعات في بلدهم هي نفسها منذ اكثر من نصف قرن، ويمكن اختصارها بعنوان عريض واحد هو: الإنكار. كثيرون يتذكرون السهرات والحفلات في مناسبة رأس السنة لا سيما في بيروت بعد يومين على تدمير اسرائيل مطار بيروت عام 1968. هذه المظاهر مستمرة حتى اليوم. البعض يتباهى بهذه الممارسات كونها علامة ثبات وقوة إنما يمكن اعتبارها أيضاً مؤشراً على التفكك وغياب حس المواطنة ما يعني انعدام أي دور للمجتمع المدني، وبالتالي للرأي العام. لقد تجاوز انهيار الوضع في لبنان الشأن السياسي ليصل إلى الشأن الإجتماعي وهنا الخطورة. قد يكون حلّ المعضلة، إذا أخذنا جرعة من التفاؤل، على المستوى السياسي ممكناً، عبر الحفاظ على الوضع الراهن الدقيق ومنع وصول النار من الإقليم إلى الداخل اللبناني بانتظار التسوية الإقليمية. ولكن ماذا عن حل المعضلة الاجتماعية؟ والمقصود ان علامات التفكك والعزلة والفردية باتت تؤشر الى انفلات غير مسبوق على الصعد كافة. وها هي جرائم القتل العشوائي المجاني في أكثر من بيئة ومنطقة خير دليل على ذلك. الجسم اللبناني لم يعد مريضاً فحسب، بل أصبح في العناية الفائقة. ان حجم الخطر الناتج عن هذا التفتت الاجتماعي الذي ألقت أزمة النفايات الضوء عليه، يؤكد أنه لم يعد من الممكن التعويل على المجتمع المدني المتفتت، ولا على الخارج غير المهتم بأزمات لبنان الاجتماعية. لقد أصبح الرهان الوحيد المتبقي هو إعادة بناء الدولة، كي لا يزداد الوضع سوءاً وتتفاقم كل أنواع الأمراض في الجسم اللبناني، أكان السرقة أو القتل العشوائي أو الفساد أو غيرها، وهذا لا يخدم مصلحة أي من الأطراف المحلية المتنازعة. فإذا انهارت البنية الاجتماعية ستنهار على رأس الجميع! ولكن كيف سنتوصل الى إعادة بناء الدولة إذا لم تقتنع الأطراف المتنازعة بأن السرطان القاتل بدأ يتفشى في الجسم اللبناني؟ وهل من بصيص أمل في أن يخرج لبنان من هذه المحنة الدقيقة إذا تفادينا الوقوع في الفشل الاجتماعي التام، كي نتمكن بعدها من توفير علاج شامل لكل الأمراض التي أنهكت هذا البلد؟ * إعلامي لبناني