يؤلم أن تُنْهِي عجوز ثمانينية - بقرية تدعى «صامطة» - حياتها الطويلة وقصتها الممتدة الممتلئة بالكفاح عبر سيناريو مأسوي وانتحار مجهول السبب وقاصم النتيجة، لم يشفع ليومها الختامي وقفة الجسد بصبر وصمود لثمانين عاماً متوالية من الوجع «ربما» والحزن الأكيد والتحديات المستترة وشيء من التفاؤل الخجول الشبيه بالنبض المتقطع، عجزت وهي التي لم تتكئ لساعة واحدة على العجز كمنهج ومحطة توقف، عجزت للحظة واحدة وفرغ لها اليأس قطرته النهائية في العقل لتترك ما تبقى من العمر بلا أفعال حاضرة ومستقبلية، ومتوقفاً بِكَرَمِ الماضي الذي علمها الحد الأعلى من كل شيء إلا معلومة أن إسدال ستار الخاتمة بيد الرب. صمدت للزمن - هذه العجوز - حتى الثانية الأخيرة من العقد الثامن ورفضت أن تترك وقتاً إضافياً للحلول والالتفات للعيون المحيطة من أجل زادها الذي تستحقه وتحتاجه من العطف والرحمة والقُرْب، لم تعتد ولا تعرف ماذا يعني أن يكون بقاموس الحياة وقت ضائع؟ فاختارت الموت كنقطة أخيرة في دفتر حياتها قبل مقبل مغاير آخر مجهول لا تحتمل الاقتراب منه ولا معرفته. محزن مفجع أن تضع عجوز نهاية تجربتها بيدها، وتطفئ صمود جسدها بانتحار، ومثير أن تنهي فسحة الأمل بسكبة بنزين وتُخْرِجَ للأبد ما كان مكبوتاً بصدرها وعالقاً في عنقها، مرة أولى عبر دفع ما عَلِق للأعلى والارتقاء فيسقط ويا لخيبتها دمعاً ساخناً تمسحه بمنديلها الوحيد كشاهد عيان ثابت على المسيرة والتاريخ، ومرة ثانية تصمد وتقوى فتبقي كل هذا المكبوت في صدرها الذي يبدو أنه لم يعد يحتمل فانفجر. كنت أحسب الانتحار يقف في منتصف العمر حين يضعه الإنسان كحل نهائي يائس بائس مجنون وفاصل ناري بين الروح والطموح وبين العظيمين الحياة والموت، كنت أحزن وأفسر وأبرر بعاطفة شديدة وميزان تضعف فيه كتلة العقل أية حال انتحار يفجعني بها خبر مار، كنت أختار لكل حال ما يسكت الأفواه - لزمن - عن النبش في من فات، مع علمي أنه لن ينتحر أحد بلا أسباب فيها ما نقدر على حله ومنها ما نحتفظ بعلاجه في أدراجنا السرية بعجز نصفي للإمكانات وشلل كلي للعقول. هل ستنتهي حالات الانتحار عند سبب مجهول، أم يكون الإسكات بالأسباب المعلومة كالمرض النفسي والاكتئاب وحالات اليأس الشديدة؟ سأصدق سبب الانتحار لعشريني وثلاثيني وحتى أربعيني، لكن من يقنعني ويفيدني عن انتحار «ثمانينية» احتراقاً. انتحار هذه العجوز أقلقني لأنه يخفي وراءه جرس إنذار بأن هذه الفئة منسية، أو معذبة، وربما مقطوعة عن كل شيء، ومغيبة عن العيون، لأنها قدمت ما وراءها وما خلفها بلا مقابل، فاختارت الموت كمقابل وحيد ومكافأة مجزية لمسيرة زمن. قد لا تكون هذه «الثمانينية» أول المنتحرات من رفيقات دربها وسنها، وقد لا تكون الأخيرة، لكن من أجل السنين التي قضينها بيننا وقدمن فيها ما جادت به عليهن الحياة، ليس من أجلهن، بل من أجل العرق والدموع والأنين وانحناءات الظهر، لنقف بجوارهن ونسندهن حتى يأتي الموت فيختار منهن من يريد لا أن يذهبن بالعنق إلى الموت، الموت هو الذي يأتينا إن كنا عقلاء، ولا يعقل أن يذهب إليه أحد، وقبل نوبة الحزن في كل ما مضى يظل الجرح الدامي متوثباً للبوح «أين نحن من هؤلاء العجائز»؟ [email protected]