رفاه الفرد والدولة يعتمدان أكثر وأكثر على ثلاثة تطورات: الأول: تحول المدينة إلى وحدة أساسية للعلاقات الاقتصادية والثقافية بين الدول. الثاني: تحول المؤسسات المدنية إلى رابط أساسي بين أبناء الدولة الواحدة وإلى جسر حيوي للتواصل بين الدول المختلفة. الثالث: صيرورة الاتفاقات الدولية المكون الأساسي في منظومة الحقوق الفردية بما في ذلك منظومة المواطنة. الأول، يفسح المجال للمدن الأكثر تطوراً في أي دولة لأن تكون بوابة مهمة للفرص الموجودة في العالم، متجاوزة المحدوديات المختلفة لتأخر المدن الأخرى في الدولة نفسها. الثاني، يؤسس لمشاعر المسوؤلية والتعاطف بين مواطنين أصبحوا تدريجياً يفقدون الروابط الفعلية بينهم سوى الانتماء المشترك للدولة، كما يثري أبعاد ومستويات العلاقات بين الدول. الثالث، يقلل من تأثير المصالح المحلية والقيود الثقافية على تشكيل منظومة الحقوق الأساسية للفرد، فاسحاً المجال لرؤى أكثر تنوعاً وأرحب أفقاً، كما أنه يؤسس لنظرة تجعل العالم مصدر تأثير إيجابي على الحياة اليومية للفرد، وتجعل تاريخ المنظمات والاتفاقات الدولية الحقوقية تاريخاً مشتركاً للإنسانية. التطورات الثلاثة ليست جديدة وإن كانت معظم دول العالم لا تزال توجه معيقات نحو ذلك مثل ممارسة الحكم، أو كفاءة المؤسسات ومرونتها، أو الثقافة والبنية الاجتماعية. من المعيقات الأساسية في الدول العربية هي طريقة تأثير الهويات السياسية قومية إسلامية وطنية على الانتماءات الوطنية، خصوصاً في ما يتعلق بالقضايا الأساسية نحو علاقات المواطنين بالدولة، وعلاقات المواطنين بالمواطنين، والعلاقات بين الدول. فنحن نفترض أولاً أنَّ الأممية القومية أو الدينية أو الثقافية مقوم أساسي للهوية الوطنية وللواجبات السياسية المتبادلة بين الدولة وبين المواطنين، كما نفترض ثانياً أنَّ الاشتراك في القومية أو في الدين يلزم عنه واجبات ومسؤوليات سياسية. وثالثاً أنه لا بد من وجود هوية مركزية ودائمة تحكم وتقيد الانتماء السياسي للفرد والمجتمع في كل الأوقات والأمكنة. هذه الفرضيات مشتركة بين القوميين والإسلاميين والوطنيين كما نلاحظ ذلك في أي جدل حول الهوية السياسية. فنلاحظ أولاً أنه لا يمكن ذكر هوية وطنية بغير أن نشعر أننا بحاجة إلى تسويغها بالاستناد إلى هوية دينية أو لغوية أو ثقافية. الحديث عن الهوية الوطنية السعودية أو السورية أو المغربية يفرض فوراً البحث عن ذلك المشترك الديني أو اللغوي أو الثقافي السعودي والسوري والمغربي. والأمر نفسه عن الهوية السياسية الإسلامية أو القومية. وبقدر الضعف أو القوة في ذلك المشترك بقدر هشاشة أو رسوخ الهوية الوطنية المعنية. ثم نلاحظ ثانياً أن الاشتراك في الهوية ينتج عنه تلقائياً إلزام بمواقف سياسية مشتركة، فالاشتراك في الهوية القومية العربية، أو في الهوية الدينية الإسلامية، أو في الهوية الوطنية المحلية، يخلق شعوراً بإلزامية مواقف سياسية عربية أو إسلامية مشتركة. وحتى التراجع في فكرة الوحدة القومية أو الإسلامية لم يكن مبدئياً وإنما براغماتي، فلا تزال الوحدة السياسية المثال الذي لم يمكن تحقيقه «بعد»، ولا يزال لدينا جامعة الدول العربية ومؤتمر الدول الإسلامية والبنك الإسلامي للتنمية، ولا يزال هناك شعور بأهمية وجودها استجابة للاشتراك القومي أو الديني، مع ملاحظة أنه لا يوجد في العالم أي منظمة دولية قائمة على الدين أو اللغة سوى هذه. ثم نلاحظ ثالثاً أنه يجب أن يكون للمرء أو الدولة هوية مركزية أساسية تكون الهويات الأخرى للفرد خاضعة لها، فالشخص مثلاً مسلم أولاً ثم عربي ثم سعودي، أو تونسي أولاً ثم مسلم ثم عربي، أولويات مختلفة ولكن تنطلق من مبدأ واحد. هذه الفرضيات الثلاث هي الموجِّه الفعلي للهويات السياسية، وبغيرها سيكون للقومية أو للإسلامية أو للوطنية تجليات أخرى تماماً. وكثيراً ما يغيب عن تحليلنا لدور الهويات السياسية قوة تأثيرها. وهي معيق فعلي لحركة المجتمعات العربية والإسلامية نحو تلك التطورات الثلاثة التي تعتمد على تفاعل بين كيانات ذي هويات مرنة وسيالة ومتعددة ومتنوعة ومتحركة. فتفعيل دور المدينة في العلاقات الدولية يتطلب منها أن يكون لها انتماء وطني مستقل عن هويتها الوطنية. لأن هذا يعطيها مرونة عالية في التعامل مع الهويات الأخرى كافة التي قد تتناقض مع الهوية الوطنية للمدينة، ولكن تلك الفرضيات تجعل هذا من باب المستحيل إلا على حساب الولاء للوطن، إن التفاعل المرن مع العالم يتطلب إمكان امتلاك هويات متعددة متوازية تترتب أولوياتها بحسب السياق وليس بشكل دائم. أما المؤسسات المدنية فتفعيل دورها يصعب في السياق الذي تسود فيه فرضية «إن الهوية الوطنية والواجبات السياسية مستندة حصراً على ثقافة أو لغة أو قومية مشتركة». سبب الصعوبة هو كون المؤسسات المدنية تخلق تلقائياً أشكالاً أخرى من الانتماء الوطني التي قد تكون أكثف من رابط الهوية الوطنية القومي أو اللغوي أو الثقافي. ما يعني أن المؤسسات المدنية تنزع من الهوية الوطنية وظيفتها الأساسية المفترضة، ما يهدد تسويغ وجود هوية وطنية. وهذا يشكل بالنسبة لكثير من التقليديين خطراً كبيراً. وربما من أجل ذلك التعامل العربي الحذر مع المؤسسات المدنية الذي لا يمكن تفسيره دائماً لكون المؤسسات المدنية تجمعات منظمة، بل لكونها تخلق أرضية انتماء وطني غير الأرضية التقليدية: أي أرضية الهوية الوطنية. أرضية لا تستطيع مؤسسات الدولة الحالية الاستجابة لها، لأن ذلك النوع من الانتماء الوطني يتطلب دولة ناجحة وظيفياً، لذلك تتمسك السلطة العربية بالهوية الوطنية أو القومية في حين أن واقع المجتمع أصبح غير معتمد عليهما أصلاً بل لعله لا يعرفهما، ومن يدرك هذا يعلم أن المؤسسات المدنية ضرورة استراتيجية لاستقرار الدولة واستمرارها، وأنه لا بد من تفعيل دورها، ولكن لكي ينجح هذا التفعيل فلا بد من تجاوز تلك الفرضيات. والمؤسسات المدنية التي تعيش في مثل ذلك الإطار يمكنها القيام بدور فاعل في بناء علاقات بين الدول وجسور بين الشعوب، لأنها تكون تحررت من القيود التقليدية التي يتم فرضها عليها، فاليوم الفرد بين خيارين: التخلي عن هويته لكي يؤسس علاقات عميقة مع الغير أو التخلي عن الاندماج مع غيرهم والاكتفاء بعلاقات سطحية. والمطلوب أن نقول إنه يمكن الحفاظ على الهوية وبناء علاقات عميقة مع الغير، لأن الهوية لا تلزم صاحبها شكلاً أو دوراً. أخيراً فلكي يمكن للاتفاقات الدولية صياغة الحقوق الفردية فلا بد من تجاوز فرضية التلازم بين الهوية والواجبات السياسية أو المواطنية، لأن الاتفاقات الدولية قد تصيغ الحقوق الفردية بالاستفادة أو الاستناد إلى هويات متناقضة أو متضادة مع الهوية المحلية الثقافية أو القومية أو الدينية، فلا بد من أن نقبل أن الحقوق الفردية بما في ذلك الحقوق السياسية مثل المواطنة لا يشترط استمدادها من الهوية، وحينئذٍ يمكن فسح المجال لتطوير منظومة الحقوق الفردية على حوار وجدل بين أفراد من مختلف أنحاء العالم. أهم خطوة لتجاوز تلك الفرضيات هو استذكار أن الهويات والواجبات كافة المرافقة لها هي أفكار. الدولة فكرة. القومية فكرة. الوطنية فكرة. والعلاقة بينهما فكرة. والواجبات التابعة لها فكرة. أفكار يتم وضعها لخدمة واقعنا وليس تقييده. ولا يمكن التنبوء بالنتيجة النهائية لتجاوز تلك الفرضيات إلا أن إحدى النتائج الأولية هي أنه سيتم تعريف المواطنة من حيث الانتماء للدولة وليس من حيث الانتماء للهوية، وهذا وحده يفسح المجال لحركة واسعة ولتنوعات متعددة في العلاقات السياسية والاجتماعية. * كاتب سعودي [email protected]