يسعى الأفغاني عتيق رحيمي في روايته «ملعون دوستويفسكي» (ترجمة راغدة خوري، دال، دمشق 2012)، إلى التماهي مع رواية «الجريمة والعقاب» للروسي دوستويفسكي. يتماهى رسول بطل رواية رحيمي مع راسكولينكوف، بطل دوستويفسكي، شكلاً ومضموناً. يُقدِم رسول على قتل عجوز مرابية تقوم بتشغيل الفتيات واستغلالهن. لا يكاد رسول يرفع فأسه كي يضرب رأسها، حتى تَعْبُر رواية الجريمة والعقاب في ذهنه، تصعقه، ترتعش يداه، تتمايل ساقاه، تفلت الفأس من يده، تخترق جمجمة المرأة وتنغرز فيها. يتأملها غير دارٍ ما يفعل، وبينما هو في تلك الحالة يأتيه صوت امرأة تصعد الغرفة، تنادي «نانا عليا»، يحار رسول، أيكمل الجريمة ويقتل المرأة الأخرى البريئة، أم يأخذ الأموال والمجوهرات ويهرب، ثم في لحظة فاصلة يهرع إلى النافذة، يلقي بنفسه منها تاركاً كل شيء خلفه. يلاحقه شبحُ بطل دوستويفسكي ولعنتُه، يفكِّر فيه وفي مصيره، يتساءل أنه ربما يكون هو مَن حرضه على ارتكاب الجريمة، باعتبار أن قصته متوارية عميقاً في داخله، كما يتساءل عمن أفسد الأمر كله، المرأة الأخرى أم دوستويفسكي، يميل إلى الاعتقاد أن دوستويفسكي هو مَن أفسد عليه ب «جريمته وعقابه»، صعقه وشل حركته، لعنه ومنعه من تكرار مصير راسكولينكوف، وذلك بأن يقتل امرأة ثانية وهي بريئة، ويسرق المال والمجوهرات التي ستبقى تذكِّره بجريمته. ويصبح فريسة الندم، وينزلق إلى هاوية الشعور بالذنب، ثم ينتهي في السجن، يفضل ذاك المصير على ما فعله من فرار كمغفل، كمجرم أبله بدماء فوق يديه ولا شيء في جيوبه. يلعن دوستويفسكي، وهو المسكون بلعنته ولعنة بطله... وفي غمرة قصف المدافع وسقوط الصواريخ من الجهات كلها، تنهار الأسس، يسقط البشر في مستنقعات الجريمة والثأر. يفقد رسول صوته، في دلالة إلى انعدام التأثير وعبثية الصراخ وسط صخب المدافع وجنون الأسلحة، لا تفلح محاولاته في استعادة صوته، فيصبح مثارَ استهجان المحيطين به من جهة، ومثار شفقتهم الممزوجة بالغيظ والاحتقار من جهة أخرى. يكون صوته الداخلي الصدى المدوِّيَ لجريمته المتعاظمة في روحه، وحين يعترف بها للآخرين يجدونها شيئاً لا يُذكر بالمقارنة مع هول ما يجري، ومع الجرائم العظمى المتتالية المستمرة. يدوِّن على الدفتر الذي احتفظ به من حبيبته صوفيا -يتشابه اسمها مع اسم صونيا حبيبة راسكولينكوف– اعترافه بالجريمة، يبرر لها أنه قتل ليحميها وغيرها من الفتيات من جشع المرابية القتيل واستغلالها. يشعر بعدم الانتماء وتبدد الهوية وضياعها وسط الجنون والقتل والحرب التي لا تعرف الشرف ولا العفة، كل طرفٍ يقتل باسم الشرف المهدور. يجاهد للبحث عمن يستمع لشكواه واعترافه، ولأنه كان فاقداً صوته، فقد كان يبدو ساذجاً معتوهاً لا غير، وبينما يصر على الاعتراف، يصادف براويز، وهو قائد أحد المعسكرات ومسؤول الأمن، الذي يتأثر لحالته، يتعاطف معه، يجده بريئاً، يحاول اقتفاء أثر راسكولينكوف والتماهي معه، ولاسيما بعد أن يقرأ له رسول ترجمته لمقاطع من الرواية. يبحث له براويز عن دوافع ومبررات للتبليغ عن جريمته، يحاول أن يخفف عنه، يصف قتله المرابية بأنه تطبيق للعدالة، يستعيد رسول تأكيد راسكولينكوف لنفسه بعد قتله العجوز، بأن ذلك انتماء للعقل المتفوق الذي يُصنَّف «في ما وراء الخير والشر». يصف الحياة التي يعيشها بالكابوس، وما يحلم به بالنعمة، وما يلاحقه ويَسْكُنه باللعنة. يخشى العودة إلى غرفته، لديه إحساس أنه يتم اجتياحها من أطياف هاربة من كوابيسه: المرأة التي داهمته أثناء ارتكابه جريمته، يارموحمد صاحب البيت المسلح بحقد وسكينة، رازمودين ابن عمه الطامع بأخته، وحتى دوستويفسكي، ب «جريمته وعقابه» ولعنته. يحاول الصراخ، لفضح أولئك الذين باسم التقاليد والدين والشرف يشجعون الناس على الاقتتال، على الأخذ بالثأر، وعلى تغذية جذوة الحرب التي يجهلون أسبابها ويتجاهلون كوارثها. يذكر رحيمي في سياق روايته، بعضَ العوامل البيئية التي ساهمت في استعار الحرب، كركود الهواء وطول مدة الجفاف، ما أدى إلى تعميم التصحر الذي اجتاح الأرواح بدوره، وترك كل شيء راكداً في استنقاعه، بارود الحرب، دخان الرعب، وجذوة الكراهية. كما يطلق بعض الأسئلة الملغزة على لسان حمار رسول التائه، وهي أسئلة محورية لا يخطر للبشر في بلاده أن يسألوها لأنفسهم، يكرر صدى أسئلته التي لا بد أن تكفل إجاباتها بتبديد الغموض وكشف الحقيقة، منها: «لماذا تهت؟ لماذا لم أعد أعرف الطريق؟ أين هو الدرب؟ أليس هو الطريق الذي أسير فيه كالعادة؟ ما الذي يجري؟ لماذا لم أعد أتعرف إليه؟ لماذا يبدو لي هذا المسار غريباً؟ هل بسبب الليل؟ أم أنه الخوف؟ أو التعب؟ أو الشك؟». ثم يفكر بالانتحار، لكنه يستدرك عبثيته ولاجدواه. في بلد يُتهم فيه الباحث عن تطبيق القانون والعدالة بالجنون، يتألم، يتآكله الندم ويعذبه السر، وحين يقرر الحاكم غازي صهيب الاستماع لاعترافه والتمهيد لمحاكمته، لا يكون القتل السببَ المباشر لذلك، بل يكون هاجسه الكشف عن مصير المال والمجوهرات التي كانت بحوزة العجوز، والتي كان لأحد مقربيه جزء مرهون فيها. تكون المحاكمة المُمَسْرحة كافكاوية، حيث السجال محتدم حول جريمة لا شهود فيها ولا ضحية، فقط اعتراف هذياني... غرابة جريمته لا تحول دون البحث عن عقوبة غريبة لها. يحار الجميع في توصيفها، لا تكمن مشكلته في كيفية حكم الآخرين عليه، يفصح رسول للقائد براويز أن مشكلته هي نفسه، الجريمة شظية داخلية ملتهبة في الروح، هي ذاك العذاب الذي يتأثر به كثيراً. يقنعه برأيه أن الحرب ستنتهي في اليوم الذي يقبل فيه أحد المعسكرات بالتضحية، ولا يعود يطلب الثأر، ومن هنا تأتي ضرورة إعلان الحداد على أفعاله وجريمته وانتقامه، وحتى الحداد على الضحية. يريد أن يُحاكَم ليكشف نفسه أمام أولئك الذين هم مثله، ارتكبوا الجرائم دون أن يشعروا بالمسؤولية التي تولَد من الشعور بالذنب، كما يريد للمحاكمة والحكم الصادر عنها أن يكونا شاهدين على الزمن غير العادل، زمن الكذب والنفاق، عساها تكون شرارة لمحاكمة مجرمي الحرب كلهم. يدافع براويز عن رسول في المحكمة بعد أن يقتنع بفلسفته الخاصة، يعلن أن حالته مثالية وأنه يلقن درساً باهراً في التضحية للجميع، وأنه لو استطاع كل واحد أن يضع أفعاله قيد المساءلة والمحاكمة لاستطاعوا الانتصار على الفوضى التي تسود بين الإخوة في البلد. ويكون براويز أول مَن يجسد ذاك الفكر الجديد الذي اقتنع به، يسارع لافتداء رسول وسط ذهول الناس، يوصي بدفنه وعدم الثأر له، ليعبِّد بذلك طريق التسامح أمام الآخرين. يقدم رحيمي بطله شهيدَ المرحلة ورسوله إلى أبناء بلده، تكون وصيتُه للجميع مضمَّنةً على لسان رسول للقائد براويز، يوصيه بوجوب قراءة أفكار دوستويفسكي في ما وراء علم نفس الإنسان، ليصل إلى الميتافيزيقيا. كما يؤكد له أن كتابه «الجريمة والعقاب» ينبغي أن يُقرَأ ويدرَّس في أفغانستان، عسى أن تخف الجرائم.