هناك شجرة تمتد على كورنيش النيل في غاردن سيتي قرب مدرستي القديمة اسمها «أم الشعور». يمكنك أن تراها نحيفة وأن تراها عريضة. غالباً مورقة طوال العام على ما أتذكر. تخرج خيوط بنية من أغصانها متجهة نحو الأرض. تتضافر الخيوط بإعجاز مدهش ثم تذوب في بعضها البعض بينما تواصل النمو لأسفل. حتى إذا وصلت إلى الأرض صارت جذعاً آخر للشجرة نفسها، ومدت من الجذع جذوراً جديدة وكأنها شجرة جديدة متصلة منفصلة في الوقت ذاته بالشجرة الأم التي أنسدلت منها خيوطها. عندما يكتمل الجذر يبدأ في تغذية الجذع الجديد فيورق. ويُحدث أغصاناً منها تنسدل خيوط أخرى نحو الأرض وتتضافر ثم تذوب في بعضها البعض وتصير كغصن سميك يتجه للأرض مرة أخرى ليُحدث جذوراً تتغذى من خلالها ليسمك ويُحدث فروعاً ويورق ومن بين الفروع تنسدل خيوط وهلم جرا... لا أعرف الاسم العلمي لهذه الشجرة. ولا الاسم الفصيح لها في اللغة العربية. فقط أعرف اسمها الدارج العامي «أم الشعور» حرفياً هي شجرة «أم» وحرفياً أيضاً «الشعور» هو ابنها. لكن معناها العامي الذي منه اسمها لا علاقة له بهذا الأمر. عامياً شجرة «أم الشعور» تعني «الشجرة ذات الشَعر» في حصة الحياة حكت لنا «سور جان» عن هذه الشجرة. قالت: كان ياما كان في سالف العصر والأوان فتاة جميلة وطيبة وكان لها حبيب مثلها جميل وطيب. وكان يعمل صيادَ سمك. ذات يوم ذهب الحبيب ليطلبها من والدها. واشترط عليه والدها عقداً من لؤلؤ البحر يصطاده الشاب بنفسه. أعد الحبيب مركبه وسافر بها من النهر متجهاً إلى البحر. عند خروجه هرعت إلى الشاطئ حبيبته لتودعه. وقطعت على نفسها عهداً، هو ألا تعود إلى بيت أبيها وألا تبارح مكانها على شط النيل حتى يعود حبيبها... مرت سنوات وهي جالسة هناك. يمر الصيادون في النيل بمراكبهم. يطلبون منها أن ترجع. وهي تقول لن أرجع إلا بحبيبي. يشفقون عليها ليالي البرد والمطر في الشتاء ونهارات الشمس الحارقة في الصيف. وكل من يمر عليها يرجوها أن ترجع. أن تنام. أن تأكل. لكنها تقول لن أرجع إلا بحبيبي. لن أغمض عيني إلا على رؤية وجه حبيبي. لن آكل إلا لقمة مع حبيبي. مع مرور السنوات يئس منها الصيادون والمارة وسكان المدينة. تركوها هناك على شاطئ النيل. حاولوا أن يتلافوا النظر إلى موضعها. أن يوهموا أنفسهم أنها ليست هنا. وأن يقوموا بأعمالهم اليومية وهم يمررون حياتهم كأن شيئاً لم يكن. مرت سنوات وسنوات وعقود. ومات ناس وعاش ناس. ولم يتناقل الكثيرون قصتها. حتى أن الغالبية ممن صاروا يقطنون المدينة لا يعرفون ما هي. هل هي غول؟ وحش؟ حجرة؟ لم تكن هذه الفتاة تقص شعرها. كانت تتركه يطول ويطول لتحسب به عمر غياب حبيبها. كانت موقنة أنه راجع. كانت موقنة أنه حي. ولم تكن تفكر في العقود التي مرت. ولا في الناس التي اختلفت. صار شعرها كثيفاً وطويلاً يغطيها كاملة وهي جالسة. لذلك سمّوها «أم الشعور». لكن الغياب كان شرساً. كذلك كان الشوق. وكذلك كان الشَعر. لذا فقد شق شعرها الأرض من حولها، محاولاً أن يطول ويطول في باطنها حتى يصل إلى عمق النهر. ويطول ويطول حتى يمتد في النهر إلى البحر. صار شعرها هو أياديها التي تفتش عن حبيبها بضراوة. حبيبها صياد السمك في النهر الذي غرق في البحر بحثاً عن اللؤلؤ. لكن اللؤلؤ الحقيقي كان دمع عيونها الذي يرويها فيطول شعرها هكذا. يقولون إن ماء النهر كان يفيض كلما بكت الفتاة بغزارة. لكنها لما وصل شعرها إلى حبيبها الغارق أمسك بطرفه. لم يكن الشعر كافياً للإمساك به كله ولا انتشاله. أخذت أم الشعور تقوي جذعها وتثبته في الأرض أكثر حتى تتمكن من سحب الغريق كل هذه المسافة. أخذت تستفز شعوراً جديدة لأن تنبت من رأسها، من أياديها ومن أقدامها، ومن كل جزء منها. وصار الشعر ينمو. ويصنع ضفائر قوية كحبال البواخر. ويشق سطح الأرض. ويذهب عبر الماء ويطول ليمسك بطرف آخر من أطراف حبيبها. ظلت أم الشعور تفعل ذلك حتى أنقذت جثمان حبيبها. وخبأته بين الفروع وصنعت من نفسها كهفاً يؤويه. ثم فكرت في كل الغرقى الآخرين. الذين ما أغرقهم سوى الانصياع لشرط الوصال في الحب. بدأت أم الشعور تتغذى على حبيبها. على حبهما لتثبت وتقوى وتستمر في مد شعورها من أعالي الأغصان إلى أسافل الأراضين. تضفر شعورها كحبال البواخر. وتمدها عبر النهر إلى البحر، تنتشل الغرقى. كل الغرقى حباً. وستظل تفعل ذلك وتنمو وتصنع من جذوعها كهوفاً لهم وتنتشلهم حتى آخر غريق. كلما مررت قرب كورنيش مدرستي، ورأيت أشجار «أم الشعور»، أعرف أنه ما زال هناك حب يستحق الغرق من أجله، وأرسل للشجرة قبلة. أحياناً أربت على شعرها. أو أختبئ في كهوف جذوعها. وأتذكر «سور جان» التي رحلت عن المدرسة، و «بلدنا ع الترعة بتغسل شعرها».