تحتفل ألمانيا بمرور خمسة قرون على ميلاد لوكاس كراناخ الابن، بمعارض ضخمة في 12 مدينة ألمانية، وفي وسائل الإعلام المختلفة. فالأب والابن اللذان يحملان الاسم نفسه من أهم فناني القرن السادس عشر. كانا يشرفان على أشهر ورشة رسم في عصرهما وكان إنتاجهما غزيراً وأسرع من باقي الرسامين. قاما بعمل هائل بمقاييس عصرهما، وبقيت نحو 1500 لوحة من مرسمهما حتى الآن. حققا نجاحهما في عالم تغير بسرعة. جسدا ما ننسبه في الفن إلى مصطلح عصر النهضة: أي انطلاق الإنسان نحو عصر جديد. كانت حياة لوكاس كراناخ الأب حافلة بالأسرار، والتي لم يكشف كثير منها حتى الآن. فالمعلومات شحيحة عن طفولة الرسام وشبابه. ولد في 4 تشرين الأول (أكتوبر) 1472 في مدينة كروناخ التي تسمى بها. بدأ بالترحال في سن مبكرة لكن، سرعان ما اختفت آثاره حتى عام 1500 حين ظهر رساماً في فيينا أكبر مدن الإمبراطورية ومركز إقامة الأباطرة. هناك أوكلت إليه بعض المهام وظهرت أولى أعماله المعروفة. رسم لوحة حفل زفاف رئيس الجامعة. الجديد تماماً هو طريقة صوغ اللوحة، فقد وضع الناس في علاقة مع الطبيعة الرائعة المليئة بالرموز. تظهر عناصر مثل الماء والتربة والنار وببغاء صغير في الخلفية ليوحي بالدرجة العلمية للزوجين. إنه ببغاء الآرا الذي اكتشف في البرازيل قبل عامين فقط من رسم اللوحة! أظهرت أعمال كراناخ في فيينا فناناً متمرساً له بصمته الخاصة. في بداية القرن السادس عشر اتخذ الأمير الساكسوني فريدريش الثالث من مدينة فيتنبرغ على ضفاف نهر الألب مقراً. أطلقوا عليه فريدريش الحكيم وكان محباً للفن، وكان يريد أن يجعل من مدينته مدينة العلوم والفنون. أسس فيها جامعة ليكوريا عام 1502. استدعى الأمير عام 1505 لوكاس كراناخ ليكون رساماً لقصره. كان يتقاضى 100 ذهبية سنوياً، ما يعادل اليوم 100 ألف يورو، وهو الراتب ذاته الذي كان يتقاضاه أستاذ الجامعة في المدينة وقتذاك. كان الأمير يدفع للرسام إضافة إلى راتبه ثمن الأعمال التي كان يطلب منه رسمها. لذا، حظي الرسام بمكانة رفيعة ومرموقة. كانت المهمة الرئيسية له هي تصوير الأسرة الحاكمة، والتي كان يجب أن تعلق صورها في كل قصر وفي كل مكتب حكومي. رسم كراناخ الأمير في وضعية مهيبة في زيه الرسمي الكامل والقبعات والمعاطف الملكية والسيف. كما رسم الأسرة الحاكمة أثناء رحلات الصيد وحفلات الزفاف وفي المناسبات المهمة. كانت من بين المهام الموكلة له أيضاً تنظيم المسابقات في ساحة السوق. كان يأمر بفرش الساحة بالرمال ويأتي الفرسان والمتفرجون، بعد ذلك يحفر هذا الحدث على قالب خشب. التقى في فيتنبرغ بأستاذ اللاهوت مارتن لوثر وبدأت صداقتهما، وأصبح كراناخ الأب أيضاً رسام الإصلاح في ألمانيا. كان الشاهد على زفاف مارتن لوثر والراهبة كاتارينا فونبورا عام 1525. وربما تعرف لوثر إلى زوجته ووقع في حبها في منزل عائلة كراناخ، فعندما هربت كاتارينا من الدير لم تجد لها ملاذاً سوى عائلة كراناخ، حيث أقامت هناك بضع سنوات. رسم كراناخ بورتريهات لمارتن لوثر أظهر فيها إنساناً مفعماً بالطاقة. قبل ذلك بسنوات تزوج لوكاس كراناخ عام 1512 ابنة عمدة المدينة التي أنجبت له خمسة أطفال وأطلق على ابنه الثاني اسم لوكاس أيضاً. اشترى بيوتاً وأدار حانة رابحة وكذلك الصيدلية الوحيدة في المدينة. بعد ذلك بوقت قصير أصبح أثرى سكان المدينة وشغل عضوية مجلس البلدية حتى أصبح العمدة. أعاد الأب رسم مواضيع قديمة مألوفة، ولكن برؤية جديدة تماماً. كانت هذه الخطوة بمثابة ثورة في الإبداع التصويري في ذلك الوقت، فقد ارتدت شخصيات لوحاته زينة عصرية تحيطها طبيعة واقعية. لقد رأى كراناخ الأب العالم والناس بطريقة جديدة. كما استفاد من الفنانين المشهورين المعاصرين له: كان البلاط يكلف أيضاً الرسام آلبرخت دورر، وكان يكبر كراناخ بعام وأصبح من ألد منافسيه. يدل حفر خشب لدورر في عنوان «استشهاد القديسة كاترين» على التنافس بين الرسامين الناجحين. ظهرت لوحة دورر عام 1498، وبعد 8 سنوات استخدمها كراناخ كنموذج لرؤيته للموضوع نفسه الذي كان متداولاً في تلك الفترة. طوره، كما فعل لاحقاً فنانو عصر الباروك، ليصبح مشهداً درامياً مهماً. كما كان جاكوبو دي بارباري ابن مدينة البندقية رسام البلاط قبل كراناخ، وجلب معه التأثير الإيطالي. اشتهر الرسامون الإيطاليون في تلك الفترة بأسلوب جديد لصور البورتريه النصفية، إذ يبدو الأشخاص في لوحاتهم كأنهم أحياء. تعرف كراناخ الأب إلى هذا الفن في رحلته الدراسية إلى إيطاليا وكان على دراية تامة بما تم إنتاجه هناك. انشغل بهذا الأمر في شكل مكثف وكان دائماً يجد أسلوبه الخاص، والذي يبدو لنا اليوم عصرياً. كما وفرت له الأساطير مواضيع لنوع فني خاص. تظهر لوحات مثل سالومي ورأس يوحنا الجانب المظلم لإغراء الأنوثة، وقد صور سالومي كشخصية أرستقراطية من زمنه. كما صور شخصيات أسطورية مثل كاريتاس ولوكريتسيا. ابتكر رسامون إيطاليون قبله بسنوات قليلة صورة المرأة العارية المغرية. صور كراناخ الأب هو الآخر بحرية جسد المرأة عارياً، وعلى الفور جعل من الفكرة تجارة مربحة. موضوع آخر مثير صوره كراناخ في أشكال عدة مختلفة هو حوريات الماء. أحد المواضيع المفضلة لدى كراناخ هو الزوجان المختلفان: رجل مسن وامرأة شابة، أو العكس امرأة عجوز ورجل شاب. هذا تعبير عن موضوع أشمل من الموضوعات التي اهتم به كراناخ وهو سلطة المرأة. كان يصور السلطة التي كانت النساء يمارسنها على الرجال. أشرف كراناخ في ورشة البلاط على حرفيين ورسامين معاونين. في هذه الورشة نشأ كراناخ الابن وترعرع وتعلم الرسم. لم تكن الورشة تلبي فقط رغبات النبلاء ورجال الدين في رسم اللوحات، بل أيضاً طلبات سوق فن جديدة وطلباً متزايداً من الطبقة الوسطى. لم يكن بمقدور كل شخص تحمل تكاليف شراء لوحة فظهرت الطباعة أقل كلفة. لذا، كانت تصنع في الورشة قوالب خشبية تستخدم في طبع نسخ عن اللوحات. وتم إنجاز مواضيع أو صور شخصية وفق الطلب. ابتكر كراناخ قوالب كبيرة للطباعة تتألف من قوالب صغيرة لطباعة صور كبيرة أو بالحجم الطبيعي، وكان كل قالب يمثل جزءاً من اللوحة. في اللوحات الشخصية الكبيرة كان كراناخ يستبدل قالب الرأس أحياناً بقالب رأس آخر ويضعه على الجسد نفسه. كانت الطباعة الوسيلة التي تسمح بتحقيق تأثير واسع النطاق مقارنة بالرسم. هكذا، تمكن كراناخ من إنتاج لوحات بأعداد كبيرة. كل لوحات الورشة كانت تحمل شعار أو توقيع كراناخ الشخصي وهو عبارة عن رسم لأفعى مجنحة تحمل خاتماً في فمها. بذا، ابتكر كراناخ علامة خاصة بورشته وكان ذلك جديداً أيضاً. كان المهم بالنسبة للمشتري أنه يشتري عملاً لكراناخ مختوماً بشعاره. وهذه بداية فكرة الإنتاج الضخم الذي ظهر بعد ذلك مع الثورة الصناعية. كانت الورشة تستخدم ألواناً من أكاسيد طبيعية مستخرجة من مناجم في ألمانيا وخارجها، بل كان أكسيد اللون اللازوردي من أفغانستان. نفع امتلاك كراناخ صيدلية في توفير أصباغ له من خلال ما يعرف بامتياز الصيدليات الذي مكنه من شراء المواد الأولية بالجملة بسعر أرخص. كانت الأكاسيد الطبيعية تتعرض لعملية إعداد طويلة كالطحن والغربلة إلى أن تصبح أصباغاً. كانت الورشة تصنع الأطر وتعد أقمشتها مسبقاً بقياسات ثابتة وأعداد كبيرة لاستخدامها وفق احتياجات الزبون. وكانت تنتج كميات من الموضوعات الرائجة مسبقاً في الورشة. بعد ذلك أصبح كراناخ مشهوراً، ليس بسبب جمال لوحاته فحسب، بل لإمكانه توفير الكثير منها أيضاً. كان لدى رسامين آخرين مثل دورر ورش ومساعدين. لكن وحده كراناخ الأب كان لديه أسلوب رسم موحد حدده بنفسه وملزم لجميع مساعديه. هكذا، اعتمدت ورشته على أسلوب العمل الجماعي لذا، كان التمييز بين أعمال الأب والابن في غاية الصعوبة. تم فحص لوحات من ورشتهما تعود إلى عام 1537 بالأشعة تحت الحمراء لرؤية ما تحت طبقة الألوان لمعرفة من رسمها: الأب أو الابن أم أحد من العاملين معهما؟ وبذلك تم الكشف عن التوقيع الذي لا يرى بالعين المجردة، ومعرفة صاحب العمل من خلال خط يد الرسام. كان يعتقد أن صورة مذبح الإصلاح الشهيرة في كنيسة مدينة فايمر هي آخر عمل لكراناخ الأب. اكتشف علماء بمساعدة التصوير بالأشعة تحت الحمراء أن هذا العمل من أعمال الابن وليس الأب. فالتوقيع كان للابن وهو توقيع مختصر وغير متكرر في اتجاه الخط المتقطع تقريباً، وخربشات أحياناً. كان الابن يفضل استخدام طبشور اللون الأسود على نقيض الأب الذي كان يفضل استخدام الحبر الأسود والفرشاة. كذلك من العلامات المساعدة في تمييز أعمال كراناخ وضعية العينين وطريقة رسم الأصابع. ومن جديدهما أيضاً استخدامهما فرشاً للرسم رفيعة جداً لرسم تفاصيل كان بعضها صغيراً جداً تحتاج الاقتراب كثيراً منها لرؤيته. شهد عام 1537 نقطة تحول مهم، إذ مات هانز الابن الأكبر لكراناخ في شكل مفاجئ. وبدأ لوكاس الابن الأصغر في إدارة الورشة. وسرعان ما اتخذ الإصلاح منحى سياسياً لتتكون تحالفات السلطة. اندلعت بين عامي 1546 و1547 الحرب الأهلية المذهبية الأولى في ألمانيا انتصرت فيها القوات الكاثوليكية الإمبراطورية التي استولت على مهد البروتستانتية مدينة فيتنبيرغ ونفت أميرها. كان لذلك بالطبع عواقب وخيمة على ورشة كراناخ ولم يعد الأب رسام البلاط. غادر المدينة ولحق بأميره في منفاه في مدينة فايمر وواصل عمله. قبل وفاته بثلاث سنوات رسم ابنه صورة نصفية له. كانت اللوحة تخليداً فقد رسمه مرتدياً ياقة من الفراء وبملامح وجه متفردة ومؤثرة. في 16 تشرين الأول 1553، توفي لوكاس كراناخ الأب عن 81 سنة. وبعد 500 عام على ولادة الابن تم اكتشاف تفرده وحساسيته ودقته الفنية ورسمه صوراً شخصية لا تقل شأناً عن أعمال أبيه.