صدرت أخيراً عن سلسلة «كتاب دبي الثقافية» رواية «الفرار في عام 1934» للروائي الصيني سوتونغ ضمن كتاب يجمع بين دفتيه إضافة للرواية قصتين للمؤلف نفسه، وقامت بالترجمة «يارا المصري». الذي يقرأ «الفرار» سوف يغرق في شاعريتها المفرطة، وسوف تنطلي عليه الخدعة ليظن نفسه بين دفتي رواية فانتازية الطابع، إلا أنه سوف ينتهي إلى أن ما بين يديه ما هو إلا حكاية واقعية قُحة، وهي كذلك ليست بالرواية التاريخية كما يوحي عنوانها، تتجلى فيها مأساة عالمنا دفعة واحدة، وهي تكتظ بالجوعى الذين يتحولون جامعي ثروة فاسدين لا يأبهون إلا بالبحث عن شبع لا يتحقق في يوم من الأيام، وبالنساء يحفظن إيقاع التاريخ من الاضمحلال. وتبدأ الحكاية من عند الراوي الشاب الذي يحاول جاهداً أن يهرب من ظل أبيه ومن تاريخ أسلافه بلا جدوى، رحلة الهروب الفاشلة من الأب لا تفضي به في النهاية إلا للأب نفسه، الوالد الصامت لا يتحدث أبداً، وحينما يفتح فمه لا يذكر إلا تاريخ عائلة «تشين» - ذلك الذي ينحدر من الجدة «غيانغ» والجد «تشين باو نيان» مروراً بالفتى العجوز «قو تزي» والجميلة «هوان تزي» انتهاء بالراوي نفسه - يكَوّر شفتيه وينظر كممسوس ثم يهمس لابنه «عام 1934، هل تعلم، 1934 عام كارثية». يبدأ سوتونغ في سرد حكايته من عند الجدة «غيانغ» وهي حبلى بوالده تعمل أجيرة في الحقول الشاسعة لإقطاعي القرية، ملامح جميلة يرسم سوتونغ حولها جملاً رشيقة شعرية تمنحها هالة من القداسة، ولا يعكر هذه الصورة البراقة إلا ذكر اسم الجد «تشين باو نيان» وهو الاسم الكافي ذكره ليتحول أي شيء إلى نقيضه البائس، أن يجعل على سبيل المثال من صورة «غيانغ» الجميلة امرأة هزيلة شاحبة أنهكتها ذرية رجل لا يأتي إلا ليلقي ماءه في حجرها ويذهب، هكذا ينجح سوتونغ في إجراء تحولاته الحكائية فجأة بسلاسة، وقبل أن يغادر القارئ الصفحة نفسها. سوف يترك سوتونغ شخصيته القدسية هذه عند ذلك المنعطف من الزمن ليعود إلى سنواتها المبكرة التي تزوجت خلالها «تشين باو نيان»، فتاة في مقتبل العمر تتزوج من شاب غر غادر لتوه حد الفقر بقليل بعد أن أسس لصناعة الأثاث المنزلي من البامبو. لم يكن «تشين باو نيان» الحرَفي الماهر يعلم آنذاك بأنه على وشك أن يؤسس أيضًا لعائلة كتب لمعظم أفرادها بلوغ الموت بالكوليرا عام 1934، وكتب للبقية الباقية أن يصيروا مثله شهوانيين محبين للنساء إلى أقصى درجة، ذوي أعواد خشنة صلبة لا تختلف عن أعواد البامبو، إذن كان ماهرًا وأسس لصناعة كانت غريبة وحديثة العهد على القرية وعلى المدينة، وعندما كان يشارك زوجته السرير كانت أصابعه الخشنة كسكين بامبو تمر على جسدها في حدة. لم يكن «تشين باو نيان» يعلم أيضاً، أن تاريخ القرية سيتبدل من عنده وأن رجال بلدة «فينغ يانغ شو» الريفية المغمورة سوف يتبعون أثار خطاه إلى المدينة في عام 1934 أي بعد ذلك بسنوات، وأنهم جميعًا سيتركون زوجاتهم وبنيهم بلا رعاية على أمل بأن يصيروا ناجحين وأغنياء مثل «تشين باو نيان». كان «تشين» قد هجر زوجته «غيانغ» إلى المدينة لينقل الحرفة الجديدة معه إلى هناك، لم تمض مدة طويلة قبل أن يثري ويحوز الضياع الواسعة، كان يزداد صلابة وغلظة كلما امتد به الزمن هناك، وكان يتذكر بالكاد في خريف هذا العام 1934 أنه لم يرسل بالمصروفات الضئيلة المعتادة إلى أسرته في القرية، وكانت «غيانغ» تقف لتشارك في الحصاد في الحقول الشاسعة لإقطاعي القرية وهي حبلى، تفتقد لصدر رجل يحميها ويمنحها الدفء، وطفله المراهق «قو تزي» يمسك جاروفاً ليجمع به براز الكلاب بغرض بيعه للمزارعين من أجل الحصول على حذاء مطاط له ولأمه في الشتاء المقبل. في 1934 كانت القرية قد أصبحت خالية إلا من النساء والأطفال، إذ قرر الرجال أن يحذوا حذو تشين القاسي، وكان مشهدًا معتادًا في هذا العام، أن نرى امرأة تلاحق زوجها متململة خلفه ومتشبثة بذراعه حتى لا يتركها إلى المدينة، تلك التي تغير الرجال وتملأ قلوبهم بالصدأ وتبدل لحمهم بالحجارة. وهكذا يسير الحال فلا تتبدل الأشياء الجميلة في هذه الحكاية إلا بذكر الرجال، «في الحقيقة كل ما يشغل بالي هو وصف أوضاع النساء والرجال فقط»، هكذا يتحدث سوتونغ عن نفسه، كما أن قراءه أيضًا يعرفونه بهذه السمة المبهجة، حتى أنه يوصف أحيانًا بأكثر الكتاب الصينيين وعيًا بطرائق النساء ونفسية المرأة. وهو هنا في روايته «الفرار» يضعنا في مواجهة نموذجين على أتمة التناقض، المرأة التي تجمع شتات الأسرة، وتتململ خلف زوجها لتمنعه من هجر منزله وأولاده، والرجل الغليظ الذي يبقى على استعداد دائم لأن يضحي بأي شيء في سبيل الحصول على الثروة، يبدو «سوتونغ» عنصريًا نحو الرجال في حكايته هذه، إلا أن القليل من العنصرية تجاه بعض الذكور - إذا كانوا على هذه الشاكلة - لن يضرّ، ولا ينبغي لنا أيضًا أن ننسى أن السلاح والحرب هما من صنيعتنا نحن الرجال. «كان يفرّ وفي خصره سكين بامبو، وامرأته تتبعه بشعر مشعث وتطلق صوت زئير عجيب، يشبه صوت رياح الخريف وهي تركض خلفه مسرعة... قالت «أنت أيها الأحمق من سيطبخ لك ويغسل ملابسك ويحمّمك عندما تذهب إلى المدينة، إن لم تكن تريد، فأنا أريد، أفلت يدك لأقطع أصابعك لتذهب من دونها إلى المدينة وتعمل في أشغال البامبو». وبمأساوية شديدة تطفح بالشعر يصف مشهد مقتل المرأة على يد زوجها آخر رجل هجر القرية ليصبح حرفي بامبو في المدينة الكبيرة: «ولكن كيف للدماء في صباح ذلك اليوم أن تتحوّل إلى شكل زهرة لوتس، وتطايرت دماؤها المتفجرّة في ضباب أول الخريف، وأطلقت رائحة حلوة». الصورة الشعرية في القصيدة لا بد من أن تختلف حينما تهبط إلى عالم السرد، فهي في الأولى حرّة سابحة في فراغ العالم بأسره، أما هنا فهي معلقة فقط في فراغ الحكاية، وهكذا يرسم «سوتونغ» صوره الشعرية النابعة من السرد والمتأصلة في المشهد والحكاية، ولا يمكن اعتبارها غريبة عن السياق أبداً. لكن المختلف في هذه التقنية هو أن يجعل سوتونغ الراوي العليم يشارك في حبك القصة، حيث منح هذا الراوي المتأخر في الزمن الفرصة ليطلق عنان خياله، ليتخيل إضافة إلى الحقائق التي بين يديه تاريخاً مكمّلاً لتاريخ عائلته المنتقَص، منحه الفرصة أن يعود إلى الماضي ويقف أمام كل شخصية ويراها بعين خياله في تفاصيلها اليومية وتحوّلاتها المصيريّة، ليمنحها ما لم تمنحها إياه الحكاية الموروثة، حيث أركب سوتونغ راويه العليم آلة الزمن، واسم هذه الآلة كان «الخيال». وكما فعل «سوتونغ» في روايته التي حازت جائزة لوشون «تسي قو» والتي كان يحكي فيها قصة فتاة تهرب من الريف إلى المدينة، ليعقد مقارنة بين العالم البدائي الأول ونظيره الحضاري المتمدين، كذلك الحال في رواية» الفرار»، كان من الممكن أن تكون المقارنة بين مجتمع همجي وآخر في المدينة منظم يحكمه القانون، لكن مدينة «سوتونغ» بعكس ذلك تحمل في داخلها رغم مظهرها الزائف بذرة اللانظام، والعبث الذي يفضي إلى الهلاك، صحيح أنها كانت بمعزل عن هجمات الطبيعة، واستفشاء الكوليرا، التي قتلت المئات من سكان القرى منهم خمسة من أبناء «غيانغ» في عام 1934، إلا أنها كانت تكتظّ باللصوص والفاسدين من أبناء العالم السفلي، على رأسهم كان «تشين باو نيان» الذي وهو ممتلئ البطن لديه من الثروة ما يكفي قرية كاملة، كان يسرق انتقامًا من الجوع الذي عاشه في الماضي.