في صوغ أحدث توقعاته عن آفاق الاقتصادات العربية نزع صندوق النقد الدولي أخيراً قفازيه المخمليين ليعلن أن المنطقة التي تعتمد بدرجة كبيرة على اقتصاد دولي قادر على استيراد النفط والغاز الطبيعي بأسعار معقولة وتصدير السياح الموسرين، ستدفع ثمناً باهظاً لأزمة المال الاقتصادية العالمية، خافضاً نسبة النمو المتوقعة للسنة الحالية إلى أقل من النصف مقارنة مع 2008. وعكست النبرة المتشائمة التي استخدمها خبراء الصندوق في الحديث عن الشرق الأوسط، للمرة الأولى منذ بداية الأزمة قبل نحو 22 شهراً، تدهوراً حاداً في قدرة الاقتصاد العالمي لا سيما الاقتصادات المتقدمة في الولاياتالمتحدة ومنطقة اليورو واليابان على النمو، بتأثير مباشر من تفاقم الأزمة المالية وانتشار آثارها المدمرة في كل النواحي الاقتصادية والمناطق الجغرافية. وعدّل خبراء الصندوق في أحدث مراجعة لتوقعاتهم أمس، آفاق الاقتصاد العالمي في 2009 من وتيرة نمو هزيلة بنسبة نصف في المئة في كانون الثاني (يناير) إلى انكماش حاد يحتمل أن يبلغ معدّله 1.3 في المئة حالياً، في اسوأ ركود للاقتصاد العالمي منذ ستة عقود، وما يعنيه تحقق هذه التوقعات السوداوية، ارتفاع خسائر الفرص الضائعة أمام الناتج العالمي بنحو تريليون دولار. ونجم التعديل السلبي الجديد عن تدهور مماثل في الاقتصادات المتقدمة التي يتوقع الآن أن تنكمش 3.8 في المئة وليس 2 في المئة كما توقع الخبراء في كانون الثاني. وساهم الاقتصاد الأميركي بقدر كبير من الأخبار السيئة، بعد رفع معدّل انكماشه المتوقع إلى 2.8 في المئة، لكن التردي في آفاق منطقة اليورو لم يكن أفضل على الإطلاق، إذ يتوقع أن تنكمش اقتصادات المنطقة 4.2 في المئة. ورحج كبير الاقتصاديين في الصندوق أوليفيه بلانشار، احتمال تحول الانكماش في البلدان المتقدمة إلى نمو إيجابي في 2010 ومن ثم العودة إلى وتيرة طبيعية للنمو بنهاية السنة المذكورة، لكنه حذّر بشدة من أن العودة إلى النمو الطبيعي مرهونة بمصير الأزمة المالية وتحديداً بمدى التقدم الذي يتم إحرازه على صعيد تصحيح الخلل في النظام المالي وإعادة الحياة إلى أسواق الائتمان. واستبعد خبراء الصندوق فعلياً إمكان تحقيق البلدان المتقدمة نمواً إيجابياً في 2010 باستثناء كندا (1.2 في المئة) واليابان (0.5 في المئة)، ولفتوا إلى عمق تشاؤمهم بالإشارة إلى أن الاقتصادات الناشئة والنامية يتوقع أن ينهار نموها إلى 1.6 في المئة في 2009 في مقابل 6.1 في المئة في 2008 ، وتبدأ بالانتعاش في مرحلة مبكرة، بيد أن العودة إلى وتيرة نمو طبيعية ستتوقف على أداء الاقتصادات المتقدمة. الاقتصادات العربية ولاحظ خبراء الصندوق أن الدول العربية «تمتص الصدمات العالمية» إذ تعرضت لصدمة قوية جرّاء الانخفاض الحاد في أسعار النفط إضافة إلى تراجع التدفقات المالية الدولية والظواهر الأخرى لأزمة المال التي عرّضت أسواق العقار والمال في المنطقة لضغوط شديدة وساهمت في تردي أوضاع السيولة وارتفاع تكلفة الاقتراض على بعض الشركات وإلحاق خسائر كبيرة بالاستثمارات الدولية لصناديق الثروات السيادية. وخفض خبراء الصندوق معدل النمو في المنطقة في 2009 إلى 2.5 في المئة مقارنة مع 5.9 في المئة في 2008 لكنهم رجحوا أن تمتص السعودية والإمارات القسط الأوفر من أعباء الأزمة المالية الاقتصادية العالمية، متوقعين انكماش الاقتصاد السعودي بما يقرب من واحد في المئة في مقابل نمو 4.6 في المئة في 2008 وانكماش اقتصاد الإمارات 0.6 في المئة مقارنة مع نمو 7.4 في المئة. وتوقعوا أيضاً تحول ميزان المدفوعات الخارجية السعودي من فائض مقداره 29 في المئة من الناتج المحلي في 2008 إلى عجز بنسبة 1.8 في المئة هذه السنة، بيد أنهم لفتوا إلى أن ارتفاع معدل النمو الاقتصادي إلى 2.9 في المئة في 2010 يمكن الميزان من تحقيق فائض بنسبة 4.5 في المئة. كذلك توقعوا أن يعاني ميزان الإمارات من عجز كبير نسبته 5.6 في المئة في 2009 وعجز أقل بكثير في السنة المقبلة. وتنحصر الفوائد التي تنتظر معظم الاقتصادات الخليجية، في انحسار التضخم باطراد، بحيث يتوقع أن يهوي معدّله من 11.5 في المئة في 2008 إلى اثنين في المئة في 2009 في الإمارات ومن 9.9 إلى 5.5 في المئة في السعودية ومن 10.5 إلى 6 في المئة في الكويت. أما في قطر فإن مؤشر التضخم يرتبط بحيوية اقتصادها الذي يتوقع أن يرفع نسبة نموه إلى 18 في المئة في 2009 مستفيداً من مضاعفة إنتاج الغاز الطبيعي. ولفت خبراء الصندوق إلى أن تبعات الأزمة المالية الاقتصادية العالمية، لم تستثنَ أيّاً من الدول العربية خارج منطقة الخليج بما فيها مصر والأردن ولبنان وسورية التي تأثرت بدرجات متفاوته من تراجع صادراتها وانخفاض عوائدها السياحية وتحويلات عمالها المغتربين وارتفاع تكلفة خدمة ديونها، ما استدعى خفض معدّلات النمو المتوقعة لاقتصاداتها في 2009 بأكثر من النصف مقارنة مع ما كانت في 2008.