جرائم جنائية تحوّلت إلى قلق أمني يهدد المجتمع والوطن سقوط العراق فتح منافذ لتهريب الأسلحة حتى وصلت إلى المراهقين. تحوّلت الجرائم إلى أخبار يومية تكشف عن انتشار مخيف للسلاح في القطيف. الشايب: سبق أن طالبنا المسؤولين بوضع استراتيجيات لمعالجة المشكلة. الخباز: المطلوب حلول طويلة الأمد يتكاتف فيها المسؤولون والمواطنون. تكشف الأحداث الجنائية التي يُستخدم فيها السلاح في محافظة القطيف عن انتشار السلاح بشكل غير مسبوق دفع المجتمع فاتورته الباهظة على مدى سنوات، قبل أن تتوجه رصاصاته إلى رجال الأمن في الأحداث الأمنية الأخيرة. وتشير التقارير الصحفية، التي تنشرها وسائل الإعلام المحلية منذ سنوات تباعاً نقلاً عن مسؤولين أمنيين في المنطقة الشرقية، إلى وجود انفلات خارج عن السيطرة في المحافظة، تمثّل في جرائم قتل وسطو مسلح وابتزاز. وقد تقاسمت هذه الجرائم مدن المحافظة وقراها وبشكل شبه يوميّ، ووقع ضحيتها مواطنون أبرياء على يد حملة السلاح. وتصاعدت حدّتها بشكل فوق المعقول في شهر رمضان الماضي، حيث تكررت جرائم السطو المسلح العلنية ووسط الزحام وفي أوقات وجود الناس في الأسواق. ويكاد لا يمرّ يوم إلا وترصد الصحافة المحلية جريمة سطو مسلح، أو محاولة قتل، أو سرقة تحت تهديد السلاح الأبيض، أو إطلاق نار على منزل أو مركبة. يحدث ذلك على نحو تصاعدت معه حدّة المخاوف من استمرار هذا الانفلات الناجم عن انتشار الأسلحة وتداولها، واستخدامها في تنفيذ الجرائم، وبطرق تكاد تكون ممنهجة وذات أهداف واضحة، أبرزها المحلات التجارية والمطاعم والصيدليات، فضلاً عن الأفراد. منعطف نوعي حين تفجّرت أزمة العوامية والشويكة أكتوبر الماضي؛ دخلت مشكلة الأسلحة في محافظة القطيف منعطفاً نوعياً، تمثّل في إيجاد هدف جديد للأسلحة المتاحة. الهدف الجديد هو رجال الأمن. وما قبل أحداث العوامية التي أصيب فيها 11 رجل أمن (طبقاً لبيان وزارة الداخلية وقتها) لم يكن للرصاص مكان تقريباً بين رجال الأمن وبين المتظاهرين، وباستثناء ثلاثة شبّان أصيبوا في شارع الملك عبدالعزيز في القطيف بعد مناوشة وقعت على أثر مظاهرة؛ لم يكن هناك رصاص يُستخدم فعلياً. بل وصلت لغة التواصل بين قوات الأمن والمتظاهرين إلى حدّ الحوار الهادئ عبر مكبرات الصوت. وقد أثمر ضبط النفس لدى رجال الأمن عن توقف المتظاهرين عن التظاهر من تلقاء أنفسهم، خاصة بعد دعوات وجهاء ومشايخ للتوقف، فضلاً عن إطلاق سراح أغلب المتحفظ عليهم بسبب المظاهرات. عاصفة السلاح قبل حرب الخليج الثانية؛ لم يكن للسلاح الناري ذكر إلا في أحاديث بائع ومشترٍ، وعلى نحو لا يشعر به المجتمع. وتعارف الناس على مسدسات ال«ربع» وال«نصف» التي يقتنيها أشخاص لم يستخدموها حتى في الهواء الطلق. وكما هو حال بقية مناطق المملكة؛ فإن «عاصفة الصحراء» فتحت باباً واسعاً لدخول أسلحة إلى المملكة. ونشطت تجارة السلاح بين جنود قوات الحلفاء وبين مواطنين، ثم بين عراقيين وسعوديين عبر الحدود. لكنّ سقوط بغداد، عام 2003، لم يفتح باباً جديداً فحسب؛ بل أغرق حواضر المنطقة الشرقية عموماً بأسلحة جديدة وذخائر تكاد لا تنفد لكثرة تدفقها المستمرّ عبر الحدود العراقية إلى المدن السعودية. وعلى الرغم من هذا الزخم؛ بقي السلاح شأناً سرياً بين بائعين ومشترين، إلى أن أخذ يظهر في آثاره المرعبة. وفي محافظة القطيف تنبّهت بلدة العوامية أولاً بشكل جدي عام 1998م، حين وُجدت جثة شاب عشرينيّ مضرجة بدمائها، قرب العين الجوفية المعروفة ب«الطيبة»، وبجانب الجثة رشاش آلي. كانت حادثة انتحار، لكنها فتحت بوابات التشاؤم استناداً إلى انتشار هذه النوعية من الأسلحة لدى كثيرين في البلدة. وكثر التساؤل عما يمكن أن تؤديه هذه الأسلحة المخبأة من دور. ويبدو أن الإجابة لم تتأخر كثيراً؛ إذ سرعان ما راحت الحوادث تقع، وتتطور الشجارات الطارئة إلى جرائم قتل، أو محاولات قتل، أو تهديد بالقتل، وفي أفضل الأحوال إلى استعراضات منظمة بالرشاشات الآلية، في المناسبات والأفراح! ثم أخذت الرقعة تتسع إلى خارج بلدة العوامية الهادئة، ويكاد لا يُقام حفل زواج إلا وتتدخل الأسلحة الآلية في التعبير عن الفرح. وهو ما يُعد أمراً طارئاً وغريباً على المجتمع في القطيف المعروف بعدم دخول «السلاح» ضمن ثقافته واهتماماته. فهو مجتمع ريفي لا يحمل أفراده أكثر من ال«جوزن» وال«ساكتون» في صيد الطيور. أما ال«كلاشنكوف» وأشباهه فهي مخاطر فاجأت -وفجعت- المجتمع بشكل حاد ومتسارع، خاصة بعد عام 2003. وفي أحد أيام العام الأخير وقعت مشادة بين شابين أحدهما من العوامية والآخر من سيهات، فتدخل السلاح بينهما، وسقط الأخير قتيلاً. وألهبت العصبيات سجالاً بين أبناء سيهات والعوامية؛ فما كان من أحد ناشطي العوامية إلا أن نشر اعتذاراً علنياً لأهالي القتيل وأهالي مدينته.. كان الرجل يدافع عن العوامية حتى لا تُؤاخذ البلدة كلها بجريرة شاب واحد. بين أيدي المراهقين تدفق السلاح على كل مدن المحافظة وقراها، وتوزعت خريطة استخدامه. وصل السلاح إلى أيدي المراهقين والمستهترين. صار جزءاً من حفلات الزواج، وصار شكلاً من أشكال العبث، وصار وسيلة من وسائل إدارة خلافات أصحاب المشكلات. ولكنه صار، أيضاً، وسيلة من وسائل السطو المسلح. عامل بقالة يُهدّد في منتصف الليل برشاش، فيسلم حصيلة بيع اليوم للملثمين الذين يهربون فوراً بالغلّة. صيدلي يدخل عليه زبائن طالبين «بندول»، ثم يجد نفسه يفرغ صندوق المحاسب بأمر مباشر من زناد كلاشنكوف. عامل محطة وقود. مندوب مبيعات شركة اتصالات. مواطن خارج من بنك. مقيم في مقر سكنه. عامل توصيل طلبات مطعم. لم يعد أحد مستثنىً من التعرض لتهديد السلاح. لجأت شرطة المحافظة إلى إلزام أصحاب البقالات بالإغلاق بعد الثانية عشرة ليلاً، وأصحاب الصيدليات بتركيب فتحة في الباب، وبعد الثانية عشرة لا يُسمح بدخول الزبون بل يُعامل من الفتحة فقط. لكن جرائم السطو المسلح لم تتوقف، ولم تعد توفّر أحداً، حتى أن مستوصف الجمعية الخيرية في القديح تعرّض لمحاولة سطو قبل شهور، في وقت المغرب، وأثناء وجود المرضى وحراس الأمن.. وسجلت الشرطة الواقعة.. ولم تتحدث حتى الآن عن الفاعلين. الأحداث تتلاحق، وتتشابه، وقاسمها المشترك هو السلاح.. السلاح الناري تحديداً. وقد تتكرر الجريمة المسلحة في المكان نفسه أكثر من مرة. مواجهة اجتماعية «لكن المجتمع لم يصمت.. بل تحرّك».. هذا ما يقوله رئيس المجلس البلدي السابق جعفر الشايب ل«الشرق». راحت حملات التوعية تضخّ عبر وسائل متعددة، لافتات في الطرق، خطب دينية، مساجد، مجموعات بريدية. كلها تتحدث عن ضرورة مواجهة مشكلة انتشار السلاح واستخدامه. وعلى المستوى الرسمي يقول الشايب «كررنا مطالباتنا للمسؤولين الأمنيين في المنطقة، بضرورة وضع استراتيجية لحلّ هذه المشكلة، فالسلاح خطر كبير على المجتمع وعلى الوطن»، و»لا يمكن استمرار جرائم القتل والسطو المسلح والتهديد دون رادع». يقول الشايب «السلاح في القطيف شكّل أزمة انفلات مزمنة، سقط بسببها ضحايا كثيرون لأسباب تافهة ودون أسباب.. ولطالما بادر الأهالي إلى مطالبات لدى المسؤولين بضرورة إيجاد حلول حقيقية لمشكلة انتشار السلاح في أيدي المراهقين». يضيف «أنا شخصياً شاركت في مطالبات كثيرة، وسبق أن طلبنا من المسؤولين الأمنيين تنفيذ معالجة حقيقية». ويشير الشايب إلى الوضع الرهن في القطيف فيقول «الأزمة الحالية من شأنها أن تصنع سوقاً سوداء للسلاح، فهذه فرصة تجار الأسلحة في تسويق بضاعتهم». ويقترح الشايب حلولاً، وهذه الحلول تبدأ بالتعامل الحكيم مع الأزمة الحالية.. يقول «هناك أزمة قائمة ومن المهم التعامل معها بحكمة من قبل الأهالي ومن قبل المسؤولين، وأقترح خطوات: الخطوة الأولى هي تهدئة الجو، تخفيف نقاط التفتيش، أما المرحلة التالية فهي تشكيل لجان من الجهات الحكومية والأهالي للتحاور والتشاور وتنفيذ برامج توعية بهذه المشكلة ومواجهتها من الداخل الاجتماعي. البراءة من المسلحين يتفق معه الناشط الاجتماعي سعيد الخباز الذي يلاحظ، أيضاً، أن مشكلة السلاح تحوّلت من مشكلة «جنائية» إلى مشكلة «أمنية»، خاصة مع الأحداث الأخيرة، وهو يرى ضرورة قصوى أن يبدأ أصحاب المطالب ب«التبرؤ من حملة السلاح ومستخدميه، سواء ضدّ المواطنين ورجال الأمن»، لأن اختلاط الأمور الجنائية بالأمور الأمنية يضع القطيف، كلها، أمام صورة المحافظة المتمردة وهذا «ليس صحيحاً» على حدّ تعبير الخباز. وبما أن المشكلة مركبة ومعقدة؛ فإن الخباز يرى أن «تُتاح فرصة للحلول الطويلة الأمد «فالسلاح» ليس متوفراً عند كثيرين، فهم قلة في أفضل الأحوال»، ومن المؤكد أن «المجتمع يرفض استخدام السلاح بأي شكل، وسبق أن رفضه حين وقعت الجرائم الجنائية من قتل وسطو مسلح، وسوف يرفضه لأنه مجتمع مسالم». ويطالب الخباز ب«تشخيص المشكلة بدقة، فهي مشكلة جنائية تعقدت وتحوّلت إلى قضية أمنية تهدد سلامة الوطن»، وهذا ما يفرض على المسؤولين والمجتمع أن يجعلوا التشاور والتعاون وسيلتين لتطبيق برامج توعية» ويسبق ذلك «حوار لإعادة الثقة»، ومن ثمّ تتمّ الإجراءات الأمنية في جوّ أكثر ملاءمة». أحداث وأخبار -صار السلاح الناري حدثاً وخبراً يوميين: شبّان يسمُرون في استراحة نخيل في بلدة القديح، يدخل عليهم شبّان ملثمون بأسلحتهم، وتحت التهديد يجردونهم من محافظهم وجوالاتهم، وكلّ ما يُمكن سلبه. ثم يختفون عن الأنظار. بائع في «بوفيه» في شارع في وسط البلدة نفسها، يفاجأ بواجهة محله مهشمة بالكامل جراء رصاص مجهولين تم إطلاقه في منتصف الليل. مراهق في السابعة عشرة يغضب مع صديقه، فيأخذ مسدس والده لإنهاء حياة صديقه.. والقضية لاتزال في القضاء حتى الآن. شاب آخر يتفاهم مع صديقه له برصاصة في عينه تُنهي حياته.. والقضية لدى القضاء منذ أكثر من عام. شاب ثالث يحتفل بزواج شاب بإفراغ «مشط» ال«كلاشنكوف» في الهواء، ثم يمازح صديقاً له بطلقة فارغة.. لكنّ رصاصة كامنة تخرج، فجأة، وتشق بطن شاب محتفل آخر.. وتُنهي حياته.. والقضية عُدّت قتلاً خطأً وخرج المتسبب من السجن قبل شهور. زوج يغضب من زوجته التي وضعت مولودتهما الأولى، ويتعقد الخلاف بينهما، فيدخل عليها بيت أهلها ويُرديها برصاصة، ويهرب بالمولودة قبل أن يُقبض عليه لاحقاً. ذات ليلة، شهد شارع مدرسة سلمان الفارسي، في بلدة القديح، تبادلاً لإطلاق النار بين مراهقين، وجرّ حملة السلاح رعباً مشهوداً لا يستطيع الناس فهم خلفياته. ضحية الشاب هادي الصفار وقع ضحية رصاصة خاطئة أثناء تبادل لإطلاق النار في بلدة القديح قبل أكثر من عامين. كان مارّاً بالصدفة. وقد سلّم أحد المتورطين نفسه وأطلق سراحه لاحقاً. في حين قُبض على شخص آخر قبل أشهر في مزرعة في البلدة، وعُثر في عملية القبض على أسلحة وذخائر كثيرة. ولا تزال القضية منظورة. عبدالله مكي عبدالحي، كهلٌ يسكن بلدة القديح. قُتل ابنه العام الماضي برصاصة من صديقه بسبب خلاف بينهما. وفي تشييع جنازة ابنه الشاب استوقف العبدالحيّ المشيعين لا ليتحدّث عن ثأر ولا ألم أب مفجوع، بل بالإعلان عن أن ما حدث لابنه إنما هو نتيجة إهمال المجتمع لمشكلة انتشار السلاح واستخدامه بالشكل الذي تكررت معه الجرائم الشاذة في القطيف. كان الرجل يحذر ويدعو إلى تكاتف الجميع من أجل القضاء على مشكلة السلاح.. ولكن صوته لم يُسمع بما يكفي.