خلوت مع نفسي ذات مساء ملبد بالغيوم ، ودندنت خيالاتي مع إيقاع الوشيل وهزيم الرعد والذي يقصف بين الحين والآخر ، فلقيتني في دهاليز الخيالات أقف حائراً أمام جملة أوهام قهقه بها عفريت إبريق الشاي الذي أرتشفه ، فاستسلمت لسردها وإطلاق الضحكات عليها بادئاً ب : ( شبيك لبيك ) تخيل أنك : تاجر لا يهمك المستهلك بحال كغالبية رجال الأعمال ، وقررت توسيع نطاق تجارتك ، فمددت رجلاً نحو المقاولات ، ورست عليك مشاريع طرق أو مدارس حكومية ، وشاكت عليك الأمور ، فماذا أنت فاعل ؟ ! أجاب العفريت قائلاً : ألم تر في الواقع أمثلة لخيالك ؟ ! بلى ، قد رأيت ، فقال العفريت : ولكن تبدو غير قادر على قول الحقيقة ، سألته : حقيقة ماذا ؟ رد وقد صعر خده ورفع سماعتي أذنيه القبيحتين : فقط أطلق شائعة بين الناس بأن شريكك هو صاحب السمو الملكي الأمير .... وسم من شئت من الشخصيات المعتبرة ، فلن يتعب أحد في السؤال والتمحيص ، وستجد نفسك في مأمن من كل شيء !! قلت : ياخبيث ، وماذا لودرى سموه بافترائي عليه ؟ ! قال : يعني انظر للمقاولين إلى الآن والشائعات تغدو وتروح فهل سمعت أو رأيت يداً من حديد تضرب أو مستنكراً عن الحال يعرب !!! وهنا قلت له : صه ، وهبني وجهاً آخر ، فقال : تخيل أنك : مدير لبلدية ما ، لديك من الموظفين من تتقاطع مصالحك معهم ، فترسي المناقصات عليه صباح مساء ، عيونك حمر ، ويداك ترتعشان ، تعسف وترفع الإيجارات كيفما تشاء ، تتعلم الحلاقة في رؤؤس طأطأها أصحابها ظناً منهم بعدم الفائدة من الشكوى وإستحالة الإنصاف ، فمضيت وكأنك من عالم آخر لا تأخذ ولا تعطي ، جيبك يمتلئ وكأسك تدور ، فمتى ستسمع لضميرك الحي وهو يناديك : رويدك أنجش رفقاً بال ... !! وهناك خفت من الفهم الخاطئ لقصدي فقلت : هيا بدله ... فقال سريعاً : حسناً ، تخيل أنك : محافظ لمحافظة تتبعها العديد من المراكز والقرى والهجر وظلت على فئة ( ب ) ردحاً من الزمن سبقك ا لآخرون وبقرتك تنطح بغير قرون !! فماذا أنت فاعل ؟ ! قلت له : سأحاول ، فافزعني بضحكة هزت قلبي وقال : لن تفعل شيئاً وستنتظر كغيرك وقت تقاعدك فما دامت الغنم لم تفن فالذئب لن يموت !! وعاود الضحك وقال : تخيل أنك : مطوع تعمل في الصباح في التعليم ، وفي الظهيرة في احدى المؤسسات المدنية ، وعقب العصر تقود العمل في مؤسسة ثالثة ، وعند حلول المغرب تؤم المصلين ، وفي الليل تعقد الألوية لخمسة رواتب أو قريباً منها ، تداهم جيبك نهاية كل شهر !! وبجوارك عاطلون جامعيون لا دخل لهم ، ولا عمل يحتوي طاقاتهم المهدرة عبثاً ... وهنا تذكرت : حادثة خريج منذ عشر سنوات يعول أماً مقعدة وزوجة وخمسة أبناء حاول العمل .. قدم .. ذهب .. وجاء دون فائدة ، وذات مساء عاد لمنزله فلقي أمه تحتضر ، وزوجته تنتحب ، وعفشه محزوماً خارج شقته ، وصاحب المبني مقطب الحاجبين ... فدمعت عيني وقلت : دعني .. دعني ، وأهرقت إبريقي وأبدلته بسلة مهملات !!!