قد صدع بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز – حفظه الله – كلمةً يُدوي صداها في حاضر هذه الأمة لينير مستقبلها , كلمة خُطت بماء الذهب لتبقى معلماً في رعاية الموهوبين في هذا البلد , ذلك حين قال - حفظه الله – " إن الموهبة دون اهتمام من أهلها أشبه ما تكون بالنبتة الصغيرة دون رعاية أو سقيا ، ولا يقبل الدين ولا يرضى العقل أن نهملها، أو نتجاهلها لذلك فإن مهمتنا جميعا أن نرعى غرسنا ونزيد اهتمامنا ليشتد عوده صلباً، وتورق أغصانه ظلاً يُستظل به بعد الله لمستقبل نحن في أشد الحاجة إليه في عصر الإبداع وصقل الموهبة وتجسيدها على الواقع خدمة للدين والوطن " . فلا العقل ولا الدين يرضيان إهمال الموهبة , بل هي عطاءٌ رباني إن لم يُرعى ويُستثمر سيكون مآله الاضمحلال والتلاشي . وقد التفتت البلاد بقيادة راعي نهضتها إلى رعاية الموهوبين وقدمت لهم البرامج التي ترعى موهبتهم وتستثمرها . ومن أهم برامج رعاية الموهوبين ( التسريع ) أو ما يُسمى بالترفيع الذي يعني : السماح للطالب الموهوب بالتقدم عبر درجات السلم التعليمي بما يتوافق مع إمكاناته ويتحدى قدراته دون اعتبار للمحددات العمرية . وقد أكدت دراسات أحد أشهر الباحثين في هذا المجال ( لويس تيرمان ) أن تقصير المدة الزمنية الدراسية للموهوب من شأنه عدم إضاعة سنوات قد تكون حافلة بالعطاء الإبداعي الذي عادة ما يكون في عمر الشباب على وجه الخصوص في الميادين العلمية . إن الموهوب لا يخلو وحي خياله وحديثه مع نفسه من القول : أنا مبدع .. أنا متفوقٌ على الجميع , قدراتي تفوق من حولي , وإمكاناتي تتجاوز أقراني , هذه حقيقتي التي آمنت بها وتيقن منها كل المربين , وأكدتها كل نتائج القياس . - إذن - لمَ أنا بين هؤلاء؟ أتعلم ما يتعلمون , وأنتهج ما ينتهجون ! أليس من حقي أن يكون لي ما يتوافق مع إمكاناتي ويتحدى قدراتي ؟ أليس فيكم من يقدر الموهبة ؟ ويثمن المقدرة ؟ ذلك هو لسان حال الموهوب , شاعرٌ بالأسى وغارقٌ في اليأس , فمن حوله أقل منه وهو يتجاوزهم بكثير , لذلك من حقه أن يكون في مقام أسمى ومرحلة أعلى . وله تحقق ذلك من خلال أهم برامج رعاية الموهوبين وهو ( التسريع ) . ذلك البرنامج الذي يسمح للطالب بالتقدم بما يتوافق مع قدراته , وبالتالي يستطيع إنهاء دراسته في سنوات أقل من أقرانه العاديين. ومن ثمَّ الانطلاقة في الإبداع وخدمة المجتمع . وقد فطنت وزارة التربية والتعليم بالمملكة العربية السعودية لأهمية التسريع (الترفيع) للطلاب الموهوبين , حيث تمت الموافقة على تطبيق إجراءات ترفيع الطلاب والطالبات الذين أبدوا تفوقاً غير عادي بدءاً من العام الدراسي 29/1430ه وذلك لكافة المراحل الدراسية. وسأسلط الضوء هنا من خلال نظرة عجلة لنظام الترفيع السعودي على فقراته ومحتوياته . وهي لائحة في مجملها عمليةٌ شاملة من شأنها إيجاد الترفيع للموهوب , ويمكننا أن نطلق عليها برنامجاً من برامج الرعاية المهمة للموهوبين , مع ما يعتريها من جوانب نقص وملامح خلل كما سيأتي . بداية مع معالي الوزير السابق الدكتور عبد الله العبيد الذي يقول عن الترفيع في مقدمته لهذا النظام بأنه : " أحد الأساليب التربوية التي تسلكها وزارة التربية والتعليم لإعداد كفاءات علمية وطنية من الفائقين والمتميزين لخدمة المجتمع في وقت مبكر من أعمارهم ". صحيحٌ أن نظام الترفيع يستثمر قدرات الموهوب في وقت مبكر , ولكن الإقرار لهذا النظام لم يكن في الوقت المبكر , أكثر من خمسة عقود على تأسيس الوزارة ولا يكون الإقرار لأمر ذي أهمية إلا في هذا الوقت المتأخر , قد يكون ذلك التأخر نتيجة تبعات من أهمها اهتمام الوزارة بالأهميات وتقديم الأولويات , ولكنه لا يطمس حقيقة التأخر , مع أنه يُحسب لمعالي الوزير السابق إقرار هذا النظام . وبالنظر إلى إجراءات الترفيع فإنها في مطلعها تقول : " يرشح الطالب /الطالبة ممن أبدى تفوقا كل من له به علاقة ويرى عليه سمة التفوق غير العادي " وكأني بمطلع الإجراءات أن الترشيح قائم على الملاحظة التي تحتاج إلى وقت لإصدار الأحكام الدقيقة . ثم يأتي ذكر اشتراط الحصول على مجموع عام 98% فأكثر ونسبة 95%فأكثر في كل مادة من المواد الدراسية المقررة في السنة الدراسية السابقة , والحصول على 125 درجة فأكثر في مقياس القدرات العقلية الخاصة.واجتياز الاختبار ( التحصيلي ) الشامل لجميع المواد الدراسية للصف الدراسي. واجتياز اختبار الذكاء . وكان الأولى أن يُذكر منذ البداية ترشيح من تتوفر فيه تلك الشروط , وذلك فور الانتهاء من برامج الكشف عن الموهوبين , بدلاً من العبارة المطاطة ( أبدى تفوقاً ويُرى عليه سمة التفوق ) . مع أن تلك الاشتراطات الرقمية مميزة ومن شأنها أن تخرج الموهوب المستحق للترفيع , ولكن رفع درجة القدرات العقلية في اشتراط الترفيع لتصل إلى (130) درجة فأكثر أفضل من وجهة نظري لأنه أكثر تقنيناً وآكد حرصاً على عدم الترفيع إلا للمستحق . أمرٌ مهم في الإجراءات ما ذُكر فيها حول المقابلة الشخصية مع ولي أمر الطالب , فذلك من شأنه زيادة الاهتمام والتبصير بماهية الترفيع ومآل الابن ليتحمل ولي الأمر مسؤولية ذلك . وفي اقتصار النظام على مراحل معينة دون أخرى خلل وقصور , لماذا يُرفع الطالب في المرحلة الابتدائية من الأول إلى الثالث ومن الرابع إلى السادس فقط , هب أن موهبته لم تبرز إلا وهو في الصف الثاني الابتدائي حين ساعدته العوامل البيئية المحيطة , فلماذا لا يتم ترشيحه حينها إلى الصف الرابع . لماذا اقتصر الترفيع مثلاً في المرحلة المتوسطة على الصف الأول المتوسط , ولماذا لا يُرفع طالب الثاني متوسط إلى الأول ثانوي ..وهكذا . والأهم من ذلك أن النظام لم يلتفت إلى أهم مراحل التسريع , وهي مرحلة القبول المبكر , فالقبول المبكر يحتاج إلى إجراءات مستقلة واعتناء لا يقل عن نظام الترفيع , فمن حقه أن يكون ضمن خارطة الترفيع وأن يُستصدر بحقه جملة من الإجراءات . أتساءل هنا عن مدى تطبيق نظام الترفيع وعدد المستفيدين منه وأثره عليهم وعلى حياتهم , وهل هنالك تغذيات راجعة لهذا النظام ليتم تعديله وتطويره , هل هنالك ما ينص على دراسات أو لجان لمتابعة هذه الإجراءات , أم أنها إجراءات أقرت وكفى . إن على عاتق الوزارة ومعالي وزير التربية والتعليم الطموح صاحب السمو الأمير فيصل بن عبدالله آل سعود متابعة تبعات هذا النظام وجدواه وتطويره مع ما يتوافق مع التكامل التام في رعاية الموهوبين وتقديم البرامج لهم . دمتم بإيمان وأمان . بقلم الأستاذ : محمد بن قاسم المالكي.