موقف : في هذا الصباح الباكر كنت متجهاً لعملي ، ونسيم الصباح يعم المكان ، وخيوط الشمس الذهبية تتلألأ أمامنا ، والشوارع مكتظة بالزحام ، والبرد القارس يحيط بنا ، والناس في عجلة من أمرها وقفت عند إشارة المرور الحمراء المزدحمة بالسيارات ، وسط ذلك الشارع الذي لا تكاد تخلو منه حركة السير ، فإذا بقائد سيارة يوقف سيارته وينزل ، ويُنْزِلُ شخصاً من سيارته ويقوده إلى جانب الطريق الآخر ، ويوصله إلى الرصيف ويرجع إلى سيارته ، فرحاً مسروراً بعمله ذلك ، قاده من زحمة السيارات ، وعلى الناحية الأخرى ذلك الرجل الأعمى يلوح له بيده ، أَنْ شكراً لك ، ولن يشكره فقط بل سوف الله تعالى له خالصاً من قلبه أن يوفقه الله وييسر أموره ، جزاء تفريجه له كربته ، لمحته الأنظار عند الإشارة بغبطة وفرح ، وأنه لا زال مجتمعنا يبشر بخير ، ولا شك أن الكل شكره على فعله ، ودعا له بخير جزاء صنيعه ، والله تمنيت لو كنت مكانه ، لأحظى بأجر جزيل ، ودعاء صالح . بشارة : ذلك الموقف يبشر بخير كبير في مجتمعنا ، وأننا بخير ما زلنا نقود الأعمى ، ونحافظ على الأخلاق الإسلامية ، ونعرف للأعمى حقه علينا ، وخاصة إذا كان شيخاً كبيراً ، ونحمد الله تعالى ونشكره حق شكره على نعمة البصر العظيمة التي لو فقدناها ، لتكدر صفوُ حياتنا ، وفقدنا النظر إلى بديع صنع الله في الكون . ويعتبر هذا الموقف صدقة من الصدقات ، وداخل في تفريج كربة المسلم والتيسير عليه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة) . رواه مسلم . وبشارة لذلك الرجل الأعمى ، حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل قال : (إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة يريد بها عينيه) . " رواه البخاري . لنعلم أن قيادة الأعمى فيها أجر جزيل ، وثواب عظيم من الله تعالى ، وشكر لله على أن جعلنا نبصر الطريق ، نقوده إلى المسجد فنكسب منه دعوة صالحة بظهر الغيب ، كذلك لما نقوده ونعبر به الشارع نجنبه مخاطر الطريق ، ونقوده إلى مجلسه ، بذلك كله قد أدخلنا الفرح إلى قلبه ، وحسسناه بأنه ذا قيمة في المجتمع ، وإظهار الخضوع والعبودية لعظمة الله تعالى بعدم التكبر على هذا الأعمى الذي لا يرى الكون إلاّ ظلام دامس ، فلا يعرف شمساً ولا يرى غروباً ، ولا يرى جمال الكون من حوله مثلنا ، ومع أنه أعمى فهو راضٍ بقضاء الله وبقدره ، ولم يقف العمى حائلاً بينه وبين طلب العلم ، وبين ابداعاته ، ولم يكن الابتلاء بالعمى سبباً في سكون اليأس في نفسه ، ولنعلم أن الذي يرزقنا هو رازقه ، فقد رزق حية عمياء برأس شجرة ، وسخر لها من يطعمها كل يوم . وردت أحاديث في فضل قيادة الأعمى لكنها ضعيفه ، منها : عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، مَرْفُوعًا (مَنْ قَادَ أَعْمَى أَرْبَعِينَ خُطْوَةً ، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ) . هذا الحديث رواه ابن الجوزي في " الموضوعات " مِن أكثر من طريق وعن أكثر من صحابي ، وبألفاظ مختلفة ، ثم قال : هذه الأحاديث كلها ليس فيها ما يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم بيّن عِلل تلك الطُّرُق . وأوْرده الصغاني في " الموضوعات " ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الكبير وأبو يعلى ، وفيه علي بن عروة ، وهو كذاب . اه . وضعّفه ابن حجر والألباني . وأخيراً : لنعلم علم اليقين أن الذي سلب بصر الضرير قادر على أن يسلب أبصارنا ، وأن يفقدنا هذه النعمة إن نحن لم نشكره عليها ، قال تعالى : (لئن شكرتم لأزيدنكم) ، فلو أعطي أحدنا كنوز الأرض على أن يسلب منه بصره لما فعل ، ولما رضي . اللهم لك الحمد و لك الشكر ، على نعمك العظيمة ، وعلى نعمة البصر الغالية ، اللهم اجعلنا ممن يشكر ولا يكفر . وصلى الله وسلم على نبينا محمد