كم من مرة عشتُ تلك المشاوير! في أفظع، وأشد حالاتي في تلك الشوارع .. من شارع درب الجنائز إلى شارع باب الكومة.. ومن حوش فواز إلى زقاق الطيار ..عتمة وبشاعة التي شقّها الإنسان. عشتُ تلك المشاوير بألم، وتلك الشوارع، وتلك الآمال الأولى المُحطَّمة. وها هي أعمارنا في العد التنازلي، ولكن لا المناخة تقبل صرختي ..ولا باب العنبرية يعطيني الآمان، حتى بقيع « الغرقد « قائم باتجاهاته الأربعة، ولكن بلا بريق آمل . وهو في حالة اتساع مستمر..وأمرُّ وأُعيد المرور، والنافذة فارغة دائماً. نجم المساء يتدلّى واطئاً، وتظهر النساء على غير عادتهن، ثم جدتي وخالتي ينظران لوصولي. والعجوز الأسطوري بجانب البيت يوزع الشتائم بجميع أفواهه وعلى الرغم من عدم وجود عقلاء يوقفون تلك القهقهات ولكنها شتائم تنقُّ في كل مكان. فقد حدث في نومي البارحة ..أحلام بعد مشاوير ..فخطفني حلمٌ جميلْ..أن أعودَ إلى بيت جدي...وحضن جدتي الدافئ.. وفي شعوري ان اغني بصوت « فيروزي « بأصداء متكرر بين جدار تفوح منه رائحة الطين ..رائحة أجدادي الكادحين وأقول .. بيتك يا ستي الختيارة بيذكرني ببيت ستي تبقى ترندحلي اشعارها و الدنيي عم بتشتي يوك و فرشات و ديوان عتق الباب و هالحيطان دارك مثل دارها يا ستي الختيارة تبقى تقعدني و تحكيلي حكايات الجن الحلوة وزبيب و جوز تخبيلي و اعملا ركوة قهوة ستي اليوم بعيدة و بشوحلا بايدي مشتاقة لاخبارها يا ستي الختيارة كاشتياق حلمي في المنام.. نخلة بصورة فلاح عجوز من رائحة المدينة ..تهمسُ في مسامعي مكائن الآبار في العوالي وقباء وقربان.. يا هيبة يثرب النائمة ..هيا أنهضي !....وأروي ظمئي أنتِ المدينة التي في كهف مماتي تنامين .. هكذا أتأهب للدلال .. لكن في البرد ..و في زاويتك ..يلوح لي رجل صامت بيده وهو يقبّل الحيطان ...كأنه يقول « مضى الكثير والقليل الباقي سيكون بدايةَ مرثيةٍ قديمة «.. بينما كنتُ أتفقدُ ساعة يدي في انتظارِ بنت الجيران .. إذ تضحكُ .. ثم تخرج من أذني صوتها ، وبقايا أمنيات هكذا ينتابني ود وشوق ذلك الزقاق القابع في طفولتي..إلى الشارع الطويل الذي يقفز فيه أصدقاء الطفولة .. منهم من يتنفس بوجوده .. ومنهم من رحل خلف سور « الغرقد « في نوم أبدي ..إلى يثرب حيثُ أنتمي.