من المسلم به ان المصالح الاستراتيجية الاميركية محكومة بضوابط مؤسساتية صارمة ، لكن ذلك لا يعني تجاهل إثر الفرد في المؤسسة، فالرئيس الأميركي الجديد يدخل البيت الأبيض ومعه طاقمه الخاص الذي يضم حوالي الألفي شخص ، ولاشك بأن ظروف الحملة الانتخابية ونوعية قوى الضغط التي دعمت الرئيس يلعبان اكبر الاثر في اختيار هذا الفريق وهذا الأمر ينطبق على أوباما كما على الرؤساء السابقين له. لكن ظروف إدارة أوباما مختلفة عن ظروف أية إدارة سابقة بما يبرر توقع تحول هذه الإدارة الى مرحلة تسجيل السوابق التي ستفرضها ظروف المتغيرات العالمية في ظل الأزمة الاقتصادية ، وهو ما سيحرم الإدارة الجديدة من كسب أي وقت بحجة الفترة الانتقالية كونها إدارة منتخبة في ظل أزمات جاهزة ومتفجرة ، والأهم تضخم التوقعات من هذه الإدارة ليس داخلياً فقط بل خارجياً أيضاً ، بما يحفز إمكانيات إصابة الداخل الاميركي والعالم بالخيبة في حال تعثر خطط الإدارة الجديدة ، مما يضعنا في اجواء نفسية خاصة حيث للسيكولوجيا دورها الرئيسي. سواء على صعيد الايحاء التوقعي او الشائعات او توجهات البورصة وتوقعات اسعار الأسهم والفائدة او حتى على صعيد السياسة الخارجية ، وبذلك يكون السؤال الأول حول كيفية مواجهة الادارة الجديدة للعواصف القادمة إضافة الى مواجهتها للأزمات الموروثة عن بوش ، فمهام إدارة أوباما تمتد إلى أعادة تنظيم جديدة لأميركا والعالم ، وهو ما يقتضي متابعة الملفات المطروحة على الإدارة الجديدة. ورغم خصوصية المرحلة فإن انتخاب أوباما خضع للظروف والآليات التقليدية للانتخابات الأميركية بما يضع الرئيس ضمن خانات التصنيف التقليدية للرؤساء الأميركيين، حيث تبين متابعة الحملة الانتخابية وسلوك أوباما خلالها الى إنتمائه لفئة “المنفعل الإيجابي” يمتاز هذا النمط بأنه مساير ومتعاون أكثر منه صاحب شخصية وحيوية قوية مع مسحة تفاؤل مهيمنة على سلوكه ، وهذا النمط يفاوض بشكل جيد، ولكنه يحيط نفسه بأصدقائه القدامى الذين يجلبون له العار ، ومن أمثلة هذا النمط هوارد تافت وكلينتون وريغان، ” الذي يقول عنه سيمونتون : “ها نحن نجد ريغان يوقع صفقة أسلحة مهمة وفي الوقت نفسه تنفجر حوله الفضائح في كل مكان”. كما ينتمي الى هذا النمط الرئيس كلينتون. وبمراجعة منهجية تركيب طاقم أوباما نجد انه سرب فعلاً بعض مساعديه في ادارة حملته الانتخابية وبعض أصدقاء العائلة إلى الفريق ، وهم سيشكلون الأصدقاء القدامى المحيطين بالرئيس ونقطة ضعفه الشخصية. أما عن التركيبة العامة للفريق فقد إعتمدت على مباديء دراسة السلوك والسوابق. حيث وضعت الكفاءات التي تجد صعوبة في عمل الفريق في مناصب استشارية ، وحيث تم الاحتفاظ ببعض أعضاء فريق بوش القادرين على التكيف مع منطلقات الادارة الجديدة ، فإذا ما نظرنا الى تعقيد الملفات المطروحة على الادارة وصفتها الطارئة أمكننا استبعاد تأثير الاشخاص والعوامل الشخصية في ادارة أوباما ، حيث الظروف الطارئة تفرض برمجة الطاقم وفق حسابات بعيدة عن العامل الفردي ، وهذه البرمجة سوف تؤثر على مستوى الإنسجام داخل الفريق بما يبرر توقع إقالات وإستقالات وتجميدات وتغييرات سريعة في الطاقم وكذلك في السلوك المعهود لبعض أفراده ، ومن هنا ضرورة استبعاد كل التوقعات التي تقوم على أساس معرفة السلوك السابق لأعضاء الإدارة. الداخل الأميركي. يقوم نمط الحياة الأميركي على استبدال محركات الشخصية بقوالب او بأنماط سلوكية محددة يمكن للاشخاص اعتمادها وتبنيها بمعزل عن الشخصية الأساسية ، مما يحفظ للفرد عالمه الداخلي ويقولب تصرفاته وعلاقته بالآخرين وفق شروط محددة ومقبولة. وبذلك كانت الأقليات الأميركية تخوض كفاحها من أجل توسيع امكانيات انصهارها في البوتقة الأميركية ، والسماح لها بإتباع هذه الانماط وتوفير الشروط لذلك. لكن تغييرات عميقة تنامت مع الوقت مدعومة بظروف الآحادية الاميركية بعد نهاية الحرب الباردة. ففي البداية كانت الجماعات الاميركية ساعية للانصهار، لكن بعضها كان يتميز بحس انتماء متطور جعلها تبقى مصرة للحفاظ على خصوصياتها ، ومن هذه الجماعات اليهود (يصرون على الانغلاق بوصفهم الشعب المختار) والصينيون (بسبب تطور حسهم القومي). بالاضافة الى الفقراء المنعزلين في إحياء الصفيح من لاتينيين وافارقة وغيرهم. الا أن الأمور تعقدت بعد نهاية الحرب الباردة بحيث باتت فضائح الاستغلال اليهودي للحكومة الفيديرالية سبباً لانبعاث حركة الميليشيات الأميركية البيضاء (الآرية – النازية الجديدة) وتنفيذها لتفجير مكتب الإف بي آي في أوكلاهوما العام 1995، لكن هذه الحركات الآرية عادت للإصطفاف خلف ادارة بوش بعد حوادث سبتمبر وردود الفعل الاميركية الفاشية عليها ، لكن فشل الفاشية الجديدة البوشية أعاد هذه الحركات الى الواجهة خاصة مع تولي أوباما “الملون” منصب الرئاسة. ومهما بلغت سذاجة محاولات اغتيال أوباما فانها تعكس موقف الآريين أوالنازيين الجدد من ادارته وهو موقف يستحق المتابعة. بل هو انطلاقة للإنشطار الأميركي على أسس عنصرية. كما أن فشل سياسات بوش وحروبه قد أيقظ عاملاً إنشطارياً آخر هو “عقدة فيتنام” إذ أضيفت إليها “عقدة العراق” و”عقدة أفغانستان” بعد هوام تكرار كارثة 11 سبتمبر مما أحدث تغييرات عميقة في بنية المجتمع الاميركي وانماط علاقاته. ثم جاء إنفجار الأزمة المالية ليفقد الموزاييك العرقي الأميركية مادته اللاصقة الاساسية وهي الوفرة المادية. فهذه الوفرة هي المصلحة التي جمعت الأقليات العرقية الأميركية ووحدتها جاعلة من الرخاء المادي أساساً لنمط الحياة الأميركية ، وبفقدان هذا الرخاء يفقد المجتمع الاميركي احد أهم عناصره الجمعية. خاصة بعد أن طال هياج بوش العسكري أصول ورموز الجماعات الإتنية والعرقية الأميركية ، حيث عادى بوش الإسلام في حروبه المضادة للارهاب. وعادى العرب بحروب “الصدمة والترويع” التي تجاوزت العراق لترويع كل العرب. كما سجل بوش أولى نوبات هياجه ضد الصين في ابريل 2001 بتكثيف الطلعات التجسسية على الصين فكانت حادثة الطائرة الشهيرة. وما لبث ان احتل أفغانستان مهدداً التخوم المباشرة للصين في محاولة خنق جيوبوليتيكية لن تغفرها الصين. أيضاً فإن هياج بوش لم يوفر أميركا اللاتينية وهو طال أوروبا عن طريق الإبتزاز الاقتصادي الذي قادها إلى حالة إختناق إقتصادي عبر سياسة الدولار الضعيف والنفط الغالي التي اتبعها بوش في السنة الأخيرة من ولايته في محاولة لتأجيل انفجار الاقتصاد الاميركي الى ما بعد نهاية ولايته. وهذه الوقائع غذت الحنين الى الأصول لدى الجماعات الاميركية. وبذلك يتوضح تدريجيا عجز الذات الأميركية عن مكاملة وتركيب مجموعاتها الدينامية. اذ يزداد بروز عوامل الاختلاف بين هذه المجموعات حيث تتبدى اليوم الفوارق بين هذه المجموعات على الاصعدة المختلفة ( العرقية واللغوية والدينية والمذهبية والقومية ...الخ). حتى أمكن القول إن انفجار أوكلاهوما وقبله حوادث ليتل روك ولوس انجلوس وبعدها حوادث سينسيناتي لم تكن سوى مظاهر لبداية تفكك الذات الأميركية ، على طريق تحويلها إلى فتات من الأقليات المتنافرة ، وهذا الملف الداخلي هو أكثر الملفات التي تواجه إدارة أوباما خطورة وهي تصل لغاية احتمال اغتياله شخصياً العودة للثوابت الإستراتيجية الأميركية. وفق إعلاناته المسبقة يمكن التأكيد أن أوباما قرر العودة للثوابت الاستراتيجية الاميركية التي إنقلب عليها بوش ، وهي محاولة إعادة تنظيم سياسية تعتمد مبدأ النكوص الى ما قبل الفوضى ، وأولى خطوات هذا النكوص تكمن في التخلص من “مبدأ بوش” المعروف ب “الحرب الإستباقية” التي أكدت فشلها الذريع وعدم قابليتها للإعتماد كمبدأ إستراتيجي. ولعل أهم الإنقلابات الإستراتيجية لإدارة بوش هو خروجها التام على مبدأ الإحتواء و إستبداله بمبدأ إستخدام القوة العسكرية بالصورة المباشرة. وهو ما بينته الحرب العراقية المتناقضة تماماً مع السلوك الإستراتيجي العسكري لكل الإدارات السابقة. فقد تخلت هذه الحرب عن معظم الثوابت الاستراتيجية الأميركية في الحروب. ومن هذه الثوابت المتخطاة القيام بإعلان الحرب بدون الحصول على موافقة مجلس الأمن الدولي ورغم معارضة الناتو لها ، بما يشكل تخطياً للاستراتيجية الجديدة للناتو إضافة للتخلي عن مبدأ إشراك الأصدقاء وتوريطهم في الحرب ، كما تخطت مبدأ عدم خوض حربين متزامنتين (الحرب الأفغانية غير منتهية إضافة الى الأزمة الكورية المهددة والمحرجة) وكذلك مبدأ عدم خوض الحروب مفتوحة النهايات ، إضافة لإغتصاب موافقة الكونغرس بصورة مساومة على الأمن القومي. وإستخدام أسلحة محرمة دولياً وأخرى جديدة (الحرب القذرة غالية الثمن الإستراتيجي) ، والدخول في الصدام الحضاري الذي طالما تجنبته الإدارات السابقة. وبما أن عملية النكوص تتم من الأحدث نحو الأقدم فإن أوباما يركز على الخروج من حرب العراق بسبب فداحة ثمنها الاستراتيجي ومخالفاتها المذكورة أعلاه ، وذلك بحيث يبدو ثمن الحرب الأفغانية ضئيلاً بالمقارنة معها ، والإنسحاب من العراق سيتيح لإدارة أوباما إصلاح كل الأخطاء المشار لها أعلاه مع الحفاظ على المصالح الأميركية في العراق والمنطقة. وهو يقتضي عدم ظهور الانسحاب على شكل هزيمة عسكرية مباشرة أوغير مباشرة لأصدقاء واشنطن العراقيين بما قد يؤخر الانسحاب. بالإنتقال الى انعكاسات النكوص السياسي على السياسة الخارجية الاميركية فانها تعني العودة الاميركية لسياسة الأحلاف ، وتالياً العودة لقبول مباديء الشراكة وعدم تجاوز الحلفاء والأصدقاء ومصالحهم كما فعلت ادارة بوش ، مع إمكانية توظيف الأزمة الاقتصادية لتحويل العدو من التهديد العسكري إلى التهديد الاقتصادي.