لا تعريف متفقاً عليه دولياً لمصطلح الارهاب . الولاياتالمتحدة رفضت دائما ان يكون له تعريف يحدد مفهومه وأبعاده ومظاهره . بذلك يبقى في وسعها إعتبار كل ما لا يروقها من أعمال العنف ارهاباً تجوز محاربته بكل وسائل العنف فمقاومة الإحتلال ، والدفاع عن النفس ضد عنف سلطة مستبدة ، والتبرع بالمال والدعوة بالكلمة والصوت والصورة الى مقاومة الاحتلال والإستبداد ، كلها في عرفها اعمال ارهابية. قبل بوش وبعده رفضت حكومات الكيان الصهيوني المتعاقبة ان يكون لمصطلح "أمن اسرائيل" تعريف يحدد مفهومه وأبعاده ومتطلباته ومداه في الزمان والمكان . فكل ما يمكن ان يعتبره المسؤولون الصهاينة خطراً في الحاضر والمستقبل وفي اي ميدان من ميادين الحياة في فلسطين او في جوارها الجغرافي او في محيطها الاقليمي او في العالم الاوسع ، يدخل في مفهوم "أمن اسرائيل" . هكذا اصبح "أمن اسرائيل" بلا حدود . تتبدى مركزية "أمن اسرائيل" في نظرة حكومة بنيامين نتنياهو الى المفاوضات المباشرة التي تسعى ادارة اوباما الى استئنافها بين اسرائيل والسلطة الفلسطينية , فمحور المفاوضات ، بحسب نتنياهو ، ليس حقوق الفلسطينيين وما يتصل بها من مسائل الاستيطان والقدس والحدود واللاجئين إنما الضمانات التي يتوجب ان تقدمها الولاياتالمتحدة ، بل الفلسطينيون أنفسهم ، لأمن اسرائيل ! على اساس هذا المفهوم ، ذهب نتنياهو الى واشنطن اخيراً لمفاوضة وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون حول ما يمكن ان تقدمه ادارة اوباما من ضمانات لأمن اسرائيل من حيث هي ثمن لا بد من دفعه لإغراء اركان حكومته العنصريين المتطرفين بالموافقة على معاودة المفاوضات . كلينتون وافقت على معظم طلباته وتوّجتها بتصريح لافت :"امن اسرائيل فوق كل اعتبار". رزمة الضمانات موضوع العرض الامريكي تتضمن : عقد اتفاق بين الولاياتالمتحدة واسرائيل لمدة عشر سنوات يؤمن للكيان الصهيوني الحماية ضد الصواريخ ، ويضمن له التفوق العسكري والتكنولوجي ، والابقاء على وجودٍ للجيش الاسرائيلي في منطقة الاغوار لعشرات السنين لمنع المتسللين من الاردن ، وضمان منع الفلسطينيين والعرب من تدويل موضوع الدولة الفلسطينية بطريق نقله الى مجلس الامن او الى الجمعية العامة للامم المتحدة . فوق ذلك ، تقدّم الولاياتالمتحدة الى اسرائيل هدية وازنة : 20 طائرة من طراز اف -35 (الشبح) تنضم الى صفقة الطائرات العشرين من الطراز نفسه التي اتفق الجانبان عليها قبل شهرين . هذا بالإضافة الى ضمانة سابقة كان الكونغرس قد صادق عليها في الشهر الماضي تقضي بزيادة حجم المعدات العسكرية التي تحتفظ بها الولاياتالمتحدة في مخازن الطوارىء الامريكية في اسرائيل من 800 مليون دولار الى مليار و200 مليون دولار ما يعني عملياً زيادة حجم المعدات والاسلحة التي توضع تحت تصرف اسرائيل في حالة الطوارىء بنسبة 50 في المئة . مع العلم ان العتاد الاضافي موضوع الزيادة المقررة يشمل قنابل ذكية وذخائر اخرى معقدة وبالغة الفعالية. كل هذه الضمانات والتسهيلات والهدايا مقابل موافقة اسرائيل على تجميد الإستيطان لمدة 90 يوماً فقط ، على ان لا يشمل القدس والكتل الإستيطانية الكبرى. ماذا عن موقف السلطة الفلسطينية ؟ انه يدعو حقاً الى الرثاء . ففي حين يعترف حتى رئيس الحكومة سلام فياض بأن العرض الامريكي اسوأ من الاحتلال ، يستبقه رئيس السلطة محمود عباس بخطاب في ذكرى ياسر عرفات اعتبر فيه الممانعة والمقاومة اكذوبة ومجرد شعارات للإستهلاك في الفضائيات. ما الخيار البديل للسلطة ، اذاً ؟ لقد كان وما زال وعود الولاياتالمتحدة . لكن ، ألا يلاحظ ابو مازن وفريقه ان ادارة اوباما اضحت اكثر ضعفاً بعد الانتخابات النصفية وبالتالي اكثر استعداداً لإستجابة طلبات اسرائيل ؟ ألا يلاحظ هؤلاء انه حتى لو وافق نتنياهو على تجميد الإستيطان في كل ارجاء فلسطين ، بما فيها القدس ، فإن ذلك لا يعني، في واقع الامر ، شيئاً ؟ ألم يقرأوا في الصحف ويسمعوا من الاذاعات والتلفزيونات الاسرائيلية ما نقلته حول رأي ادارة اوباما بتجميد الإستيطان من حيث انه "خطوة رمزية جداً وجد المستوطنون دائما طرائق فعالة للإلتفاف عليها"؟! لا تفسير لموقف عباس وفريقه من مسألة معاودة المفاوضات المباشرة ومسألة تجميد الإستيطان إلاّ في وجود قناعة راسخة لدى هؤلاء بأن لا ورقة بحوزتهم ، في ظل ميزان القوى الحالي في المنطقة ، إلاّ "ورقة" واشنطن . هم غير قادرين على ممارسة خيار المقاومة ، بل غير مقتنعين به اصلاً كطريق للإسهام في تغيير ميزان القوى الحالي من جهة ، ومعنيون بالدرجة الاولى ، من جهة اخرى ، بضمان أمن بقائهم في السلطة وديمومة وصول الرواتب الى نحو 200 الف موظف عاملين في أجهزتها او متقاعدين فيها . من هنا تنبع سياسة السلطة الفلسطينية والحدود التي تقف عندها . فالوضع الراهن ، على علاّته ، يبقى في نظرهم ، افضل من العودة الى خيار المقاومة المكلفة ، بإستيطان او من دون استيطان . القناعة كنز لا يفنى ولو افنى العدو الوطن بقطعان المستوطنين والمهاجرين الفالاشا وبتهجير اصحاب البلاد على جانبي الخط الاخضر الى الدولة الفلسطينة البديلة في الاردن .هكذا نجد ان مقابل مفهوم "امن اسرائيل" بلا حدود ، يقوم مفهوم "امن السلطة الفلسطينية وموظفيها" بلا حدود ايضا.