بلغ العلا بكماله، وكشف الدجى بجماله، حسنت جميع خصاله. الرجل الضعيف بقوته، الزاهد في الأضواء، عفيف اليد واللسان، صاحب الكاريزما العالية والظل الخفيف، عرفته لا ينظر إلى الخلف، دائم التطلع للأمام.فيه الوفاء لمن عرفهم ، وعرفوه وزاملوه، منحه الرب حب الناس ومحبتهم، إنه أبو رعد يوسف الخريجي. لست أدري كيف أبدأ، ولست أدري بأية كلمة يمكن لمثلي أن يعبر عن مشاعره؛ لتوديع صديق وأخ غاب عنَّا، كان صديقاً نادراً، كان رقيقاً، لا تملك أمام لطفه ورقّته وحنانه إلا أن تقف مشدوهاً، كيف غاب عنا بهذه السرعة.. كيف لإنسان بهذه الصفات النادرة في هذا العصر أن نفقده.. كيف لنا أن نملأ مساحة هذا الفراغ الهائل من نفوسنا بعد فقده؟.. إنها أسئلة كثيرة يصعب الإجابة عنها، لقد وقفت أمام جثمانه في مسجد الرسول -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- غير مصدّق أن يغيب إلى الأبد، وتوالت صور حياتي الطويلة التي قضيناها سوياً منذ عام 1952م في لندن، وكنا نحن أربعة: يوسف الخريجي، عبدالكريم عبدالعزيز الخريجي، خالد عبدالله السليمان، حسن رضوان، سكنَّا في منزل واحد في حي نايس برج بالقرب من هارود بلندن حتى تم قطع العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا في نوفمبر 1956م، غادرناها سوياً في ظروف صعبة إلى بيروت أثناء حرب السويس ومنها إلى المملكة.توالت صور حياتنا الطويلة، أراقب في دقائق، لا أدري كيف لفكر الإنسان ووجدانه أن يختزن كل تلك الصور ثم تقف أمامها في لحظات قصيرة بكل ما فيها من صور عديدة. عجيب هو الإنسان وعجيب أن نتحمّل -نحن الأحياء- فَقْدَ حبيب وصديق يمثل في قلوبنا كل معاني الحياة والأخوة، والقيم الرائعة والذكريات الحلوة والجميلة، التي تشدنا للاستمرار في الحياة وتحمّل صدماتها.وداعاً أيها الحبيب الغالي.. وداعاً يا أبا رعد ولمن سبقوك وسنلحق بكم، وتلك حقيقة الحياة وذلك هو (اليقين)، فاللهم ارحمهم وعوّضنا بفقدهم جميل الصبر وأجمعنا بهم في رحاب رحمتك وجناتك. (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًا فِى الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ..فيا أيها الغالي يوسف الخريجي وداعاً، ولقد ودَّعك إخوانك وأبناؤك وأصدقاؤك جميعاً بما يليق بك، وبما يكنّونه لك من حب وتقدير وإخلاص.. والله المستعان على كل شدّة.