كان البحر إلى وقت قريب يحتضن بيوت جدة وأهلها وكان هدير الأمواج يتناهى إلى أسماع السكان داخل بيوتهم الحجرية حيث كانت حدود البحر تصل حتى بداية شارع الملك عبدالعزيز حيث رصيف ميناء مراكب نقل الحجيج الذي أمر بإنشائه الملك عبد العزيز أمام (مبنى البنط) الممتد من مبنى البريد حاليا إلى مركز بقشان. وترددت على ألسنة أهل جدة آنذاك مقولة (عفشك والبنط) التي لم تأت من فراغ وإنما كانت تعبيرا عن حالة الناس في ذلك الزمان حيث كانت مصادر الرزق في البلد قليلة وكان البحر هو الذي يمنح الناس الفرصة للسفر ليجدوا من خلال ذلك ما يمكنهم من توفير لقمة العيش لأسرهم وكانت رحلات البحث عن العمل والرزق تستمر شهورا يظل فيها الآباء بعيدين عن أبنائهم وأهلهم واستمر هذا الحال حتى فتح الله على هذه البلاد أبواب الخير بالأمن والأرزاق على يد الملك عبدالعزيز رحمه الله لتصبح عبارة (عفشك والبنط) حكاية يرويها الأجداد للأبناء عن أيام صعبة عاشو فيها مغامرات مع البحر والأمواج ولمسوا أهوالها ومعاناتها فيما أصبحت اليوم مجرد ذكريات يختلط فيها الألم بالفرح. والبنط هو ميناء جدة الذي يستقبل جميع المراكب والسواعي التي تأتي بالبضائع المختلفة والسفن التي كانت تنقل الحجاج من جميع بلدان العالم الإسلامي إلى جدة ومنها إلى مكة لأداء فريضة الحج، وكان فيه مبنى هو المقر الصحي (الكرنتينة) للحجاج، حيث كانت المراكب تنقل الحجاج إلى المبنى ويتم الكشف عليهم والتأكد من سلامتهم من أي أمراض معدية على يد الأطباء في المبنى ومن ثم يتم نقلهم إلى مكةالمكرمة على الجمال أو السيارات في الفترات المتأخرة بعد توحيد المملكة. وذاعت شهرة الميناء عندما سافر منه الملك عبدالعزيز مع عدد من أبنائه في رحلته البحرية الشهيرة التي تعد أول رحلة بحرية لموحد هذه البلاد زار خلالها مصر آنذاك حيث التقى الملك فاروق ملك مصر في تلك الفترة كما اجتمع في مصر برئيس وزراء بريطانيا في تلك الفترة السير ونستون تشرشل.. كما اجتمع مع الرئيس الأمريكي روزفلت واستمرت الزيارة تلك قرابة الشهر. وحكى مدير إدارة الثقافة والسياحة بأمانة محافظة جدة المهندس سامي نوار كيف أن الملك عبد العزيز (رحمه الله) أنشأ عند دخوله جدة أول رصيف بحري أمام " البنط " ترسو عنده المراكب التي تنقل الحجاج، ومن خلاله يتوجهون إلى البنط حيث يتم استقبالهم وتقديم الخدمات الصحية اللازمة لهم، لأن الملك عندما زار (البنط) وجد المنطقة التي ينزل فيها الحجاج قبل دخولهم إلى البنط ترابية وسبخة فأمر بإنشاء ذلك الرصيف الذي يعد أول رصيف بحري في جدة يسمى ب(الأسكه). وكانت حدود الميناء آنذاك تصل حتى مركز المحمل في شارع الملك عبدالعزيز اليوم، وقد أزيل هذا الرصيف فيما بعد مع التمدد العمراني لجدة ونقل الميناء إلى موقعه الحالي. ومبنى البنط يعود تاريخ إنشائه لأكثر من مئة وأربعين عاما مضت من أقدم المباني في جدة التي بنيت جدرانها بالحجر المنقبي وسقفه من الأسمنت المسلح، ويقف مبنى البنط اليوم صامدا رغم محاصرته بالمباني الإسمنتية من كل جانب حتى لا يكاد يرى للعيان إلا عندما تقترب منه حيث تجد مبنى يختبئ في استحياء في ظل مركز المحمل التجاري الذي يزيد ارتفاعه على عشرين طابقا بينما مبنى البنط طابقين فقط .. لم يتغير مظهر مبنى البنط من الخارج كثيرا وتقف جدرانه المبنية بالحجر المنقبي لتقدم للمتأمل صورة حية لما كانت تتمتع به هذه المدينة من حضور ونمط معماري مميز استطاعت أن تتميز به عن غيرها. والبنط لازال محتفظا بالكثير من ملامحه العمرانية القديمة، حيث تبلغ مساحته قرابة الألف متر مربع يقوم عليها دور أرضي عبارة عن صالات واسعة كان يستقبل فيها الحجاج عند وصولهم إلى جدة حيث تتم الإجراءات الصحية لهم وعلى جانبي الدور الأرضي غرف الموظفين ولأطباء وعددها اثني عشر غرفة تختلف مساحاتها من غرفة إلى أخرى، والدور العلوي مكون من مجموعة من الغرف ذات المساحات المختلفة ويتجاوز عددها الست عشرة غرفة. وقد روعي في التصميم والبناء للمبنى الأنماط العمرانية السائدة في الماضي والغرض الذي كان يستخدم له. وقد زينت جدران المبنى من الداخل ببعض النقوش الإسلامية والآيات القرآنية .. كما زينت المداخل والصالات بالأقواس والأعمدة التي تتوزع في جميع المداخل والممرات في المبنى. وحولت أمانة محافظة جدة مؤخرا مبنى البنط إلى متحف تعرض فيه جميع وسائل النقل البحري القديمة مثل السواعي والمعديات والهوارى والسنابيك والسفن الشراعية وغيرها بالإضافة إلى النشاطات البحرية القديمة التي كان يعمل فيها أهل جدة .. وسيكون معلما من معالم جدة السياحية والثقافية التي سيستمتع زوار جدة وسكانها بها لأنه سيشتمل في بعض المناسبات على العديد من ألوان التراث الفني البحري الذي تتميز به المنطقة الغربية. وبين مدير إدارة الثقافة والسياحة بأمانة محافظة جدة أنه سيتم تحويل متحف البنط الذي يحتوي على ألواح زيتية للفنان فازارلي Vasarely ومجموعة أثاث خشبي مرصع، وأيضا الصدف والعظام، وأدوات نحاسية مستعملة في الحياة اليومية وبعض المزهريات النحاسية الملونة وغيرها المرتبطة بالقرن العشرين، إلى متحف خاص بالحج والحرف المرتبطة به كصناعة القوارب والسبح. وسيعرف المتحف بأهمية جدة كبوابة للحرمين ومركز تفاعل ثقافي واجتماعي للتعريف بأهمية الحج وانعكاساته على تلاقح الثقافات من جهة وعلى تطوير جدة وحرفها من جهة أخرى. وأبرز عروض متحف البنط شاملة لعرض المراكب الشراعية المعروفة تاريخيا في جدة من خلال عرض نماذج مصغرة لها وعرض قطع أصلية لقوارب تراثية. كما تعرض صورا وثائقية حول المراكب وصناعتها وموادها الأولية وحياة البحارة على شاشات صغيرة تفاعلية، ويتم عرض هذه المراكب الموجودة خارج المبنى بعد ترميمها فيعطي نموذجا حيا لمراكب جدة، ويقام هذا العرض بالدور الأرضي». وعرض آخر للحرف المرتبطة بالبحر من خلال أدوات عمل الحرفيين وصور لهم أثناء العمل وكذا عرض أفلام وثائقية تفاعلية حولها. ويقام هذا العرض بالدور الأرضي، كذلك عرض الحج من خلال طرق الحج عبر شاشة تفاعلية يختار فيها الزائر الطريق الذي يريد معرفة مساره ومحطاته وغيرها من المعلومات عنه فتعرض له عبر الشاشة بأسلوب مناسب، كما يمكنه اختيار محطة بعينها فقط فيتم عرض المعلومات المتوافرة عن المحطة المطلوبة. وتوجد هذه القاعة في الدور الأرضي. وعرض حرف جدة المرتبطة بالحج تعرض الحرف والصنائع المرتبطة بالحج كصناعة السبح وصناعة السجاد وغيرها. ونوادر الحج يعرض ما جاء به الحجاج عبر التاريخ من سلع مميزة كالأقمشة والسجاد والنقود وغيرها والتحف المميزة المرتبطة بالحج والحجاج كالمصاحف المخطوطة وكسوة الكعبة وغيرها من العروض الموسمية المميزة وفق مواضيع معينة على غرار طرق الحج عبر التاريخ، وكيفية تنظيم الحج في بلدان العالم الإسلامي ماضيا وحاضرا.