عبر تقنية الاستباق وتعدد الأصوات، يشيد جمال ناجي عالمًا روائيّا شديد الثراء والتميز، في روايته الأخيرة :»عندما تشيخ الذئاب» مخترقا فيها التابوهات الثلاث، بعيدا عن أي ابتذال مجانيّ.. راصدًا التحولات العميقة التي ترجّ شخصياته الإشكالية، محتفيا بالمكان- عمّان ونواحيها- وتغيراته.. متمثلة في القيم الجديدة التي تفشت كسرطان خبيث ينخر المجتمع الأردني خاصة والعربي عامة، كما أن الرواية تتطرق إلى الظاهرة الإسلامية أو ما يعرف ب»فقهاء الظلام». ديمقراطية السرد: يتيح السرد المتناوب للكتّاب، فرصة لكسر هيمنة السارد العليم بكل شيء، بفضل تقنية تعدد الأصوات، وهو ما برع فيه الكاتب في هذه الرواية الفاتنة شكلا ومضمونا. ويعدّ نجيب محفوظ أول كاتب روائي استخدم هذا التكنيك الفني المستورد في روايته «ميرامار»، رغم أنه ينعت بالكلاسيكية من طرف الأجيال الأدبية الصاعدة، لكن ما فتئ الكتّاب الروائيون الجدد يستخدمونها، ومنهم جمال ناجي في روايته «عندما تشيخ الذئاب»، والروائي المغربي محمد عزالدين التازي في روايته الجديدة «أبنية الفراغ»، وهذه التقنية تفرض على الكاتب أن يعنون الفصول بأسماء سرّادها... لكن جمال ناجي جعل روايته تدور في فلك شخصية عزمي الوجيه، دون أن يكون لها أي فصل.. بل يحضر اسمه في كل الفصول، تاركا الآخرين يتحدثون عنه، باختلاف مشاربهم الاجتماعية ومستوياتهم اللغوية والفكرية، وتباين صلاتهم ومصالحهم به، فضلا عن اتكاء عنصر التشويق على الاستباق، فالراوي يعلن عن الأحداث اللاحقة قبل وقوعها، على لسان كل شخصية، ويتم كشف الأسرار تباعًا إلا سرًّا واحدًا، يظل مجهولا وهذا شيء بديهي، لأن الحقيقة نسبيّة، كما أن كل شخصية تتعمد إخفاء بعض الحقائق والتستر عليها، كما يتضح من خلال السيرورة السردية، وهذا جزء من طبيعتنا الإنسانية، وليس مجرد حيلة سردية... في البدء كانت الأنثى: يستهل جمال ناجي روايته بصوت الأنثى، بسندس التي تمثل نموذجًا للمرأة المتحررة الطموحة، التي لا تتوانى عن استخدام سلاح أنوثتها لتحقيق مآربها، وهي - حسب السياق الروائي- ضحية المجتمع الذكوريّ، ضحية الفقر بالحي السفليّ وغياب الحنان الأبويّ، إضافة إلى فشل زيجاتها (طلاقها في ليلة زفافها الأول)... ترتبط سندس بعلاقة قوية بعزمي الوجيه، ابن زوجها الثاني رباح، الذي أذلها ثلاث مرات. الأولى في بيت والده، الثانية يوم ضبطها في الغرفة الدخانية بدار الشيخ الجنزير، والثالثة حين رفض الزواج منها، مع أنه يصغرها بخمس سنوات. ورغم كل الضعف الإنساني الذي ينطوي عليه هذا الكائن المسمى امرأة، فإن جمال ناجي يقدم بطلة روايته في صورة مغايرة عن تلك الصورة النمطية التي عهدناها في الكتابات النسويّة، التي تستدر الدموع والعواطف، وتدغدغ غرائز القرّاء أيضا.. فسندس تصرّ على رفض الزواج بالشيخ الجنزير، موازاة مع رفض عزمي تحقيق أمنيتها، وتنتقم من زوجها صبري أبو حصة.. بسبب تخليه عنها في ليلة زفافها، وذلك بالإقدام على حرق جتثه، حين علمت بعد وفاته بزواجه... لكنها في نهاية المطاف تعود إلى بيت والدتها، وبأقل الخسائر، وفيما يشبه التوبة، فتقترح عليها الأم أن تذهبا معا لتأدية العمرة، بعد انتهاء موسم الحج، هناك حيث يغفر الله كل الذنوب. تضارب مصالح: يعتبرالشيخ الجنزير من الشخصيات الفاعلة، بل والمؤثرة في حيوات/مصائر باقي الشخوص، علما أنه كان مجرد شيخ داعية، بمريدين كثر. ويستغل مشاعر الحقد لدى مريده بكر الطايل، وآخرين- حين علموا أن عزمي الوجيه استولى على تبرعات المحسنين بحجة تدقيق الحسابات، لينشئ مركزًا خاصًّا، وبعدها صار شريكًا في كثير من الشركات والمنشآت.. في حين يرى بكر الطايل في وجود عزمي الوجيه سببًا في الخراب الذي حلّ بالمسلمين، وفي فقره وعطالته أيضا :»أما نحن فبقينا حيث نحن، لا نقدر على إعالة أهلنا ولا نجد عملاً يزيح عنا كرب يومنا ويعيننا على إدخال البهجة إلى نفوس من يعيشون في بيوتنا». هكذا سيستغل الشيخ الجنزير إحباطات بكر الصايل وحقده الاجتماعي، وفي الوقت المناسب.. للتخلص من عزمي الوجيه، بعد ان استفحل نفوذه، بعد أن سطع نجم عزمي في المزرعة وخارجها، وصار معروفاً وموضوع حديث بين المسؤولين والمستثمرين ورجال الأعمال الذين يلتقيهم من حين لآخر. لكن السبب الحقيقي كان فشله في الزواج من سندس : «سامحت عزمي على كل شيء إلا سندس، فهي الرحيق الذي يعيد إليّ روحي التي تكاد تجف وتهجرني. لقد بلغت من العمر ستة وستين حولاً من دون أن تخرج سندس من نفسي، وكثيراَ ما فكرت في سر خنوعها لعزمي، وامتثالها لما يريد». ومن قبل استعان الشيخ الجنزير بخلطاته، للتخلص ممن تزوجها.. فرباح الوجيه، انتكس وفاجأته بالطلاق، وصبري أبو حصة مات ليلة الزفاف... ولن يكون جبران أبو بصير أسعد حظا من سابقيه، بعد أن استوزر. إطاحة الشيخ بجبران.. ليست من أجل اختلاف وجهات النظر، أو صراع سياسي بين إيدلوجييتن مختلفتين، لأن الشيخ هو من كان وراء استوزاره، ففي مزرعته يلتقي السياسيون والمتنفذون ورجال الاعمال. سيضطر جبران إلى الاستقالة من منصب الوزارة بسبب عزمي، بعد أن انتشرت فضائح عزمي الوجيه المالية في أوساط السياسيين والمسؤولين وكواليس الصحف كالنار في الهشيم. وتبنت الجهات المختصة تلك الشكوك والظنون حول ما يقوم به ومن معه من عمليات تهريب واستيلاء على أموال وتبرعات تسلمها من عدد من المحسنين. ومثلما كان الشيخ عبدالحميد الجنزير وراء توليه كرسي الوزارة، سيدفعه إلى التخلي عنه، مستغلا مشاعر الانتقام لدى بكر الطايل، الذي سيتعقب عزمي ويبلغ رجال الشرطة بوجوده في بيت خاله جبران، وبحجر واحد يصطاد الجنزير عصفورين: عزمي الذي نافسه ولم يحقق له رغبته المزمنة في الزواج من سندس، ثم جبران الذي صار يتحاشاه بعد استوزر، وخرج عن طوعه. هكذا يزيح الشيخ عبدالحميد الجنزير كل من يعترض سبيل مصالحه، وبعد قضاء مآربه.. حيث سيلقى بكر الطايل نفس المصير التعيس، بإبلاغ الشرطة تفاديا لغدره وجموحه الدمويّ. انهيار المثل الأعلى: يعتبر عزمي الوجيه ضحية لانهيار المثل الأعلى وسيادة القيم النفعية البراجماتية، متمثلة في الأب الروحي الشيخ الجنزير الذي ضبطه يختلس من أموال التبرعات التي جمعها من المحسنين بانجلترا، بحجة فقراء المسلمين وإنشاء مبنى لرعاية الأيتام المعوزين، وأيضا عند رؤية سندس/زوجة أبيه في غرفته الدخانية : «كانت ثقتي به قد اختلت يوم وجدت سندس في داره بحجة مداواته لها، لكن ما رأيته ذلك المساء في الفندق قوض كل ما تبقى من تلك الثقة. لم يعد الجنزير مثالي الذي رسمَته مخيلتي». وهكذا سيضطر الشيخ أن يتغاضى عن اختلاسات عزمي الوجيه، وسيتمادى الشيخ الجنزير في خيانته لمبادئه بأن يحول مزرعته إلى «مطبخ سياسي»، يغير مسارات الحياة والسياسة وفقا لغايات ومصالح محددة بصرف النظر عن الاختلافات العقائدية والإيديولوجية. ففيها يلتقي كبار الساسة ومن مختلف ألوان الطيف، وسيقنع الخال جبران بأن يشارك في الحكومة، وهو الذي تكبر من قبل على الناس متناسيا كلامه عن الفقراء والبروليتاريا بعد اغتنائه.. وهو يعلم بأن اختياره كوزير لم يكن سوى من صنيعة الشيخ الجنزير: « سرّ القلادة: حاولت الرواية الإلمام بمختلف تفاصيل حيوات الشخوص وأسرارها، باستثناء سرّ القلادة الذهبية، فهي معادل موضوعي للشرف والنسب، حيث نرى عزمي يصر على البحث عنها رغم كل ثرائه، فهي ليست مجرد إرث... ولن يجد لها جوابا سوى عند الشيخ الجنزير، عندما اقتحم خيمته وهو في الحج. وكان لدى الشيخ حدس بأن نهايته ستكون على يدي عزمي، عزمي الذي رغم كل شيء ظل مشدودا اليه بحنين روحي غريب... ويقترن اختفاء القلادة بنسب عزمي المجهول، بعد أن تصارحه سندس بأن أباه رباح الوجيه عقيم، وتأكده من ذلك. ويسأل الشيخ عن أبيه، فيرد : «هنالك امرأة واحدة تعرف من هو أبوك، وهي التي امتلكت قلادة الليرات العثمانية التي تخص أمك، إنها رابعة زوجة خالك جبران». هذا السر الذي يبوح به الشيخ في لحظاته الأخيرة، سيربك القارئ مثلما يربك عزمي، لا سيما وأن رابعة الوحيدة التي تعرف السر، وتسترت على الفضيحة مقابل القلادة، وأخفتها حتى عن زوجها. قد يعتقد بعض القراء أن عزمي الوجيه هو ابن الجني، بعد أن يستحضروا معالجة الشيخ لوالدته جليلة، لكن الكاتب تعمد جعل هذه النقطة غامضة، وبالتالي دفع القرّاء إلى إعادة قراءة النص، والتقاط «ومضاته» المتناثرة هنا وهناك. لكن ما يحير القارئ: كيف تبوح جليلة بسرّ كهذا لرابعة، رغم أن علاقتهما لم تكن على مايرام منذ البداية...؟ لكن يظل هنالك احتمال قويّ أن يكون الكاتب قد تعمّد إخفاء تفاصيل الواقعة التي من المحتمل أن تكون رابعة شاهدها الوحيد أو ربما شريكة فيها، فضلا عن احتمال آخر، سيكولوجي بالدرجة الأولى... يراعي فيه الكاتب مشاعر القرّاء، حتى لا يصدمهم بتحطيم إطار تلك الصورة الجميلة المعهودة والمقدسة عن الأم، وهو ما قد يجعلهم يتعاطفون مع عزمي الوجيه عند قتل الشيخ الجنزير حتى لو كان والده. أسئلة شتى تتوالد في الذهن، ولن نجد لها أية إجابات سوى بإعادة قراءة هذه الرواية الفاتنة أكثر من مرة.... *كاتب وقاص من المغرب