لم يكن مساء الإثنين قبل الماضي، كأحد المساءات المعتادة في حياتي، التَقِي فيها بالأصدقاء والزملاء، ورجال الحي من أعز الجيران، ومن أبناء العمومة ورموز القبيلة، لم تكن تلك الجموع التي حضرت ذلك المكان في مشاركة وجدانية فقط، وإنما جاءوا بقلوبهم ودموعهم وما تحمله عواطفهم الجيَّاشة، في لحظة وداعية صمت فيها الكلام، لتبقى الدموع الوسيلة الوحيدة، لترجمة ما جاش في خواطرهم تعبيراً صادقاً، ولما تختزنه ذاكرتهم وما يَدُور في مجالسهم الأسرية، بما يعرفونه عن مآثر من جاءوا لوداعها في ذلك المساء، وقبل أن تأذن شمس ذلك النَّهار بالمغيب، واحمرار الشفق يرسم لوحة سريالية توشّحت بالحزن، لفراق سيدتي ووالدتي التي احتوتني بظلال حنانها. فكانت لي الأم ومصدر الإلهام، ارتبطت بعلاقاتها بالعديد من الأسر، تنثر مبدأ التسامح بين الجميع، الذي نشأت عليه منذ صغرها، وعاشته يتيمة الأب، إلى جانب والدتها وخالها رحمهم الله، هذا بعض ما جادت به حروفي في رثاء والدتي، التي طرَّزت حياتي منذ ولادتي وحتى لحظة وداعها، كما هي عادتها في كل صباح ومساء، تمطرني بدعواتها والتي بصدَاهَا تجاوزت الصِّعَاب والتَّحديات، التي كادت تعصف بآمالي وطموحاتي، ولم ولن أجد لدعواتها وسياجها الآمن بديلاً، بصوتها الجميل وبلاغة اللغة وبساطتها، وبعض قصائد الشعر والموروث الشعبي، الذي تُجيد حفظه وتردِّدْهُ مع صديقاتها وبنات جيلها في سنوات العُمر المُبكِّرة، وارتباطهم بها حتى لحظة الوداع، في أصعب لحظات الحزن والوداع وألم الفراق، التي مررت بها في حياتي. حاولت أن أستجمع قواي وأرتب أفكاري، بهذه السطور لرثاء والدتي، ومع هيبة الوداع عجزت أن أكتب ما تستحقه سيدتي وما يُمليه علىَّ واجبها وبرِّها ورضاها، بعد رضا خالق الكون ومجري السَّحاب، لذا أعتذر لها؛ وهي في رضوان الجنان وضيافة الرَّحمن، ثم أعتذر لمن عرف فضلها وتسامحها ودورها في ما قدَّمته بطيب نفس، ولكل من بادلها التقدير والاحترام، ومنهجها في الصبر والعفو وبذل العطاء، بقدر تواضع إمكانياتها، وهي تجود بنفسها للقريب والبعيد، والجميع قريب منها؛ لأنهم يُدركون جوهرها، ولا أريد أن أقلل من حرصها على الأجر والثواب، الذي نالته بفضل كريم العطاء، وليس المقام مقام سرد وثناء، لأنني جزء منها؛ علمتني أبجديات الصبر وبعض مفردات الوفاء. وداعًا والدتي وسيدتي ومنبع سعادتي، حتى بلوغي سن المشيب، حيث ضلَّ بي الطريق بعد فراقها، أجُول بخاطري ذات اليمين وذات الشمال، حزيناً منكسر الفؤاد أذهب إلى غرفتها وسريرها، الذي لازمها طيلة الخمس سنوات الماضية، الصابرة الصبورة على ما ألمَّ بها وما أصابها، المؤمنة المحتسبة بقضاء الله وقدره، حتى أسلمتِ الرُّوح لبارئها، شكرا لأشقائي وشقيقاتي وأبناء عمومتي وأقاربي، ولعاملتها المنزلية على مدى أربعة عشر عاماً كانت ملازمة لها، ولزوجتي وأم أولادي التي تعتبرها الأم، ولأحفادها وحفيداتها، وللأطباء وهيئة التمريض بالرعاية المنزلية، والأطباء الاستشاريين في قسم الباطنة وفريق التمريض، في مستشفى الملك فهد بجدة، لمتابعته حالتها الصحية منذ البداية، فجزاهُم الله خير الجزاء، وشكراً لكل من حضر إلى مقر العزاء بالساحة المُعدة للرجال، وفي منزل العائلة من السيدات لتقديم واجب العزاء، رحم الله الوالدة الغالية، وأسكنها بإذنه فسيح الجنان.